صوت و فیلم

صوت:
,

فهرست مطالب

الجلسة السادسة والعشرون: الصیام، تمرین علی الاخلاص والحج مظهر العظمة الدین

تاریخ: 
سه شنبه, 16 شهريور, 1389

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 7 أیلول 2010م الموافق للیلة الثامنة والعشرین من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

الصیام، تمرین على الإخلاص

والحجّ مظهر لعظمة الدین

آثار الصیام

«... وَالصِّیَامَ تَثْبِیتاً لِلإِخْلاصِ، وَالْحَجَّ تَشْیِیداً لِلدِّین‏‏ ...»1
وصلنا فی شرحنا للخطبة الفدكیّة إلى القسم الثانی الذی عرّجت مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) فیه إلى ذكر حكمة تشریع عدد من عناوین الأحكام والقیم الإسلامیّة، وقد تطرّقنا فی اللیالی الفائتة، بمقدار ما آتانا الله من وسع وتوفیق، إلى ذكر ما یخصّ الإیمان والصلاة والزكاة منها. وفی المقطع التالی تؤكّد الزهراء (علیها السلام) على إحدى حكم تشریع الصیام. ونودّ الإشارة هنا إلى أنّ هذه الحكم بالطبع لا تحصر علل هذه التشریعات فیها؛ بل لقد اختارت (علیها السلام) هنا ما هو أكثر أهمّیة بما یناسب المقام.
إنّ للصیام میزةً بارزة لا تتوفّر فی غیره من العبادات وهی أنّ كون الصیام عملاً إمساكیّاً وعبادةً قوامها الترك لا یترك فیه مجالاًّ للریاء والسمعة. فالصائم لا یمكنه ان یرائی بصومه بحدّ ذاته، إلاّ أن یتعمّد ذلك ویبادر إلى إظهاره بقوله: إنّنی صائم، فهذه قضیّة اُخرى. فنفس الصیام هو عبارة عن ترك مجموعة من المفطرات، سواء أكان الشخص صائماً أو كان إمساكه لغرض آخر. اما العبادات الاُخرى فهی تختلف فی هذا الجانب. فعندما یصلّی المرء یتبیّن من ظاهر عمله أنّه مشغول بالصلاة، وعندما یدفع الخمس أو یعطی الزكاة فسیعلم الشخص المستلم للمال على الأقل أنّ فلاناً أعطى مالاً. وكذا الحال بالنسبة للحجّ والجهاد وسائر العبادات الاخرى. أمّا فیما یتعلّق بالصوم فالوضع یختلف، وهو من هذا الجانب أقرب إلى الإخلاص من غیره. ومن هذا المنطلق فإنّ الذی یؤدّی هذه العبادة على مدى شهر كامل سیكون عمله هذا تمریناً على الإخلاص، إذ أنّ تكرار المرء لعمل معیّن كلّ یوم طوال شهر من الزمن یجعل منه مَلَكة. ولهذا فإنّ الصیام یثبّت الإخلاص فی نفس ابن آدم، وهذه الفائدة تترتّب على الصیام أكثر من ترتّبها على سائر العبادات. من هنا یمكن القول: إنّه كما قالت السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) فإنّ الحكمة البارزة للصیام هی «تثبیت الإخلاص»، على أنّ هذا الكلام لا یعنی بالضرورة حصر فائدة الصیام بذلك.

الصیام وسلامة البدن

لقد ذكرت الأحادیث فوائد جمّة للصیام، منها البدنیّة، ومنها الصحّیة، ومنها الاجتماعیّة، ومنها الأخلاقیّة. ولعلّ من أشهر تلك الأحادیث ما رُوی عن النبیّ (صلّى الله علیه وآله):«صوموا تصحّوا»2. فالصوم هو واحد من أفضل السبل للحفاظ على صحّة الجسم وسلامته؛ فهو ینظّم عمل الجهاز الهضمیّ، ویدفع عن البدن سمومه، ویذیب الفائض من شحومه، ...الخ. فالصیام الیوم یُعدّ فی الكثیر من المراكز الصحّیة العالمیّة السبیل الأمثل للحفاظ على السلامة والعلاج الأنجع للكثیر من الأمراض، وقد صُنّفت فی هذا المجال مؤلّفات كثیرة.

تجرّع الأثریاء لمرارة الجوع

من منافع الصیام الاخرى التی تؤكّد علیها الروایات هی أنّ الأثریاء یتذوّقون بالصیام طعم الجوع. فالذین تكون حیاتهم مؤمَّنة من جمیع النواحی قد تعوّدوا على تناول الطعام على الدوام، ولذا فإنّهم لا یعطون لأنفسهم مهلة الإحساس بالجوع، ولن یفهموا معنى الجوع بحقیقته. لهذا فإنّ إحدى الحكم التی جعلها الله تعالى للصیام هی فهم الأثریاء لمعنى الجوع وإدراكهم لآلام الفقراء ولو یسیراً كی یعمدوا إلى تفقّدهم والنظر فی أحوالهم. وهناك فوائد اُخرى للصیام غیر أنّ الزهراء البتول (سلام الله علیها) اكتفت بذكر حكمة واحدة من حكم الصیام بما یتناسب مع مقتضى المقام.

أسرار الحجّ

«وَالْحَجَّ تَشْیِیداً لِلدِّین».
انّ السمة الفردیّة والطابع الشخصیّ هو ا لذی ساد على العبادات المذكورة لحدّ الآن والحكم التی تؤکد علیها. ومن هذه النقطة فصاعداً تتحوّل الزهراء (علیها السلام) بشكل تدریجیّ إلى المسائل الاجتماعیّة.
إنّنا قلّما نفكّر بالقضایا الاجتماعیّة، وإنّ من بركات الثورة الإسلامیّة علینا هی طرحها للأحكام والقیم الاجتماعیّة فی المجتمع وتعریفنا بالحكم الكامنة وراء معظم الأحكام الاجتماعیّة فی الإسلام والواجبات الملقاة على عاتقنا فی هذا المجال. ففی فترة ما قبل انتصار الثورة لم تكن مثل هذه المواضیع لِتُطرح فی التجمّعات الدینیّة إلاّ نادراً. لهذا فإنّ من حقوق الإمام الراحل (رضوان الله تعالى علیه) على المجتمع الإسلامیّ عامّة وعلینا نحن الإیرانیّین خاصّة هی أنّه أحیا هذا الجانب من الإسلام فی بلدنا.

الحجّ تمرین العبودیّة

إلى جانب الآثار الاجتماعیّة للحجّ ثمّة آثار فردیّة فیه أیضاً. ففی الحجّ یتمرّن الحاجّ على العبودیّة، إذ تتوفّر له فی أیّام الحجّ ـ بعیداً عن كلّ الشؤون المادّیة والمشاكل العائلیّة والمدنیّة وما إلى ذلك ـ فرصة للاُنس مع خالقه وممارسة العبودیّة له تعالى. ولعلّ من أروع فوائد الحجّ هو هذا التمرین على العبودیّة.
لكنّه من الأفضل أن یتقن الحاجّ، إلى جانب تعلّمه أحكام الحجّ، الحِكَم من وراء تلك الأحكام أیضاً. فهذا الأمر من شأنه أن یقوّی إیمان المرء ویقوده إلى إدراك أنّ الله لم یسنّ أحكام الإسلام جزافاً؛ ومن هذا المنطلق نرى أنّ القرآن الكریم من جانب، ورسول الله (صلّى الله علیه وآله) وأئمّة أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) من جانب آخر یبیّنون تلك الأحكام كلّما وجدوا الفرصة سانحة لذلك، وأكثر ما روی فی هذا الجانب كان عن الإمام الرضا (علیه السلام)، إذ أنّ أغلب الروایات المدوّنة فی كتاب «علل الشرائع» الذی یجمع علل الأحكام منقولة عنه (علیه السلام). لكن لا ینبغی أن تتولّد فی الإنسان شیئا فشیئاً حالة یكون دافع امتثاله لأوامر الله تعالى وتعالیمه فیها منحصراً بما تنطوی علیه من منافع. فنحن قلّما نلتفت إلى هذا المعنى وهو أن نتعلّم الامتثال لأوامر الله تعبّداً من دون الالتفات إلى منافع الأحكام. فكلمة «التعبّد» مأخوذة من «العبد»؛ وهی تعنی أن یكون سلوك المرء من منطلق عبودیّته. فعلى العبد أن یتمرّن على العمل وفقاً لحكم الله لكونه حكم الله؛ بل أن یلقّن نفسه أنّه حتّى وإن كان فی تنفیذ حكم الله ضرر علیه فإنّ علیه القیام به لكونه طاعة لله. إذ من الواجب على العبد طاعة مولاه، فكلّ وجودنا وما لدینا ملك لله. وعندما یقول عزّ وجلّ لی: علیك فی الساعة الفلانیّة أن تفعل بالجسم الذی أعطیتك أنا إیّاه كذا وكذا، فلابدّ أن یكون جوابی: سمعاً وطاعة! فكلّ ما لدیّ هو ملكك وأنا أمتثل كلّ ما تأمرنی به.
یقول المرحوم الشیخ علی أكبر التربتیّ: «سُنّ الحجّ من أجل سدّ هذا النقص فی أنفسنا». فالله یأمرنا فی الحجّ أن نقف لیلاً فی الأرض الفلانیّة! فإذا سألتَ: لماذا؟ وما الخصوصیّة التی لهذه الأرض؟ فالجواب الوحید الذی سیأتیك: إنّه حكم الله وعلیك الامتثال له؟ وبمجرّد أن ینبلج الصبح فإنّه یتعیّن الانطلاق فوراً باتّجاه منى لا قبل هذا الحین ولا بعده. یجب علیك أن تطوف بالبیت، وتسعى بین الصفا والمروة و...الخ. وما من ردّ على السؤال عن الغایة من هذه الأعمال إلاّ القول: انّ الله قد أمر بذلك وعلینا الطاعة!
یقول المرحوم الشیخ التربتیّ: «إنّ أسمى خصوصیّات الحجّ هی التمرین على العبودیّة». وإنّ أنصع وأروع نماذج العبودیّة هی استعداد نبیّ الله إبراهیم لذبح ولده إسماعیل (علیهما السلام)، فإنّ ذبحنا للهدی یوم العید إنّما هو تخلید لهذه الحادثة.
لقد رأى نبیّ الله إبراهیم (علیه السلام) فی رؤیا مرتبطة بالوحی أنّه یذبح ولده إسماعیل (علیه السلام)، ففهم من ذلك أنّه واجب یتعیّن علیه القیام به. فصارح ابنه إسماعیل (علیه السلام) بذلك قائلاً:«یَابُنَیَّ إِنِّی أَرَى فِی الْمَنَامِ أَنِّی أَذْبَحُكَ»3. أمّا السرّ فی عدم تكلیف الله تعالى لإبراهیم (علیه السلام) عبر الوحی الكلامیّ، وأنّه لم یرسل جبرئیل قائلاً: «یا إبراهیم اذبح ابنك»، بل جسّد ذلك له بالرؤیا، فلعلّه یعود إلى أنّه لو قال له: «أذبح ابنك» لتعلّق الحكم بالذبح ولتحتّم علیه حزّ رأسه كی یتحقّق الذبح؛ والحال أنّ هذا لم یكن أصل الحكم؛ بل كان الحكم أصلاً هو تمریر السكّین على نحر إسماعیل (علیه السلام). فلقد جُسِّد له هذا التكلیف كی یظنّ أنّ الواجب المكلّف به هو الذبح الحقیقیّ؛ ومن هنا فإنّه عندما مرّر السكین على نحر إسماعیل (علیه السلام) جاءه الخطاب:«قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْیَا»4؛ فلقد فُسِّرت الرؤیا التی رأیتَها ولقد قمتَ بما اُنیط بك من تكلیف. لقد كان هذا امتحاناً للنبیّ إبراهیم (علیه السلام) لیُعلم هل إنّه على استعداد لأن یذبح ابنه تنفیذاً لحكم الله تعالى أم لا.
وبهذا الامتحان أیضاً سوف یتبیّن كمال إسماعیل (علیه السلام). فعندما أخبره والده عن التكلیف الذی كلّفه الله تعالى به قال له:«یَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ»5. وحینما أحسّ إسماعیل (علیه السلام) من أبیه الخوف من أنّه لن یصبر تحت وطأة السكّین، أضاف القول: «سَتَجِدُنِی إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِینَ». ولم ینس إسماعیل (علیه السلام) أن یقول: «إن شاء الله»؛ وهذا یعنی: إنّنی لیست مطمئنّاً من نفسی وأطلب العون من الله عزّ وجلّ. ولعمری فإنّ مقدار المعرفة والأدب اللذین تطفح بهما هذه العبارة المقتضبة هو من الشدّة بحیث یدفع المرء بعد مضیّ آلاف السنین على هذه الحادثة إلى الإعجاب بهذا الشابّ المؤدّب أشدّ الإعجاب!
كان نبیّ الله إبراهیم (علیه السلام) یعلم أنّ الأحكام الإلهیّة لیست جزافاً؛ فهو لم یسأل: «ما الذی جناه هذا الشابّ المسكین؟ ولماذا یتحتّم علیّ ذبحه؟ وإذا كان ممّن یجب قتله، فلماذا لا یتصدّى لهذا الأمر أحد غیری؟». فلا إبراهیم ولا إسماعیل (علیهما السلام) قد أبدَیا أی تردّد أو شكّ فی المسألة. ومن هنا فإنّ من واجبنا أن نشدّ الرحال إلى تلك الأرض التی نفّذ إبراهیم الخلیل (علیه السلام) فیها أمر الله بلا مناقشة كی نتذكّر هذه الواقعة، وتداعب مشامّنا هناك نسمة من عبیر روح عبودیّة ذلك العبد الصالح، لنفهم أنّه هكذا ینبغی أن یكون العبد فی مقابل مولاه.

منافع الحجّ التی لا تُحصَى ولا تُعد

ذكر القرآن الكریم للحجّ مصالح عدّة وأكّد على أنّه: «جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَیْتَ الْحَرَامَ قِیَاماً لِّلنَّاسِ»6، ومفادها أنّه لولا الكعبة لابتُلی أفراد الاُمّة الإسلامیّة بحالة من السبات وانعدام الحركة، فإنّها الكعبة التی تبعث الحیویّة والنشاط فی روح المجتمع. فمن أجل تشویق الناس إلى أداء مراسم الحجّ یقول الباری عزّ وجلّ فی سورة الحجّ: «لِیَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَیَذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ فِی أَیَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِیمَةِ الأَنْعَام»7. فالقرآن الكریم یقول بمنافع لا تُحصى ولا تُعدّ للحجّ والروایات من جهتها قد بیّنت تلك المنافع بشكل جزئیّ أیضاً. على سبیل المثال فإنّ الناس القادمین من بلدان مختلفة سوف یتعارفون فیما بینهم، ویتبادلون المعلومات، ویلتفتون الى مصالحهم الاقتصادیّة، ویفهمون ما التجارة المفیدة لكلّ مكان من العالم، و...الخ.

الحجّ تجلٍّ لعظمة الدین

لكنّ الزهراء (سلام الله علیها) تطرح فی هذه الخطبة الشریفة فائدة اُخرى للحجّ ممّا لو وُضعت جمیع منافع الحجّ فی كفّة ووُضعت هذه الفائدة فی كفّة اُخرى لرجحت كفّة الأخیرة على سائر المنافع. فهی (علیها السلام) تقول: «وَالْحَجَّ تَشْیِیداً لِلدِّین»، والتشیید هو إقامة البناء على نحو محكم وجمیل ورفع قواعده، و«شیّد البناء» أی بناه بشكل متقَن ورفیع وجمیل. تقول مولاتنا (سلام الله علیها): الحجّ یجعل من الدین بناءً رفیعاً وعالیاً وجمیلاً وعظیماً. ولعلّ المقصود من ذلك هو أنّه لولا تشریع الحجّ ولولا تكلیف المسلمین كلّ عام بعقد مثل هذا الاجتماع العظیم والضخم لَما تجلّت اُبّهة الإسلام وعظمته لأهل العالم. ففی هذه المراسم یُستعرَض جلال الإسلام وعظمة الاُمّة الإسلامیّة وممّا لا شكّ فیه أنّ مشاهدة مثل هذه المناظر الرائعة من قبل غیر المسلمین وحتّى نقلها ووصفها لهم تثیر لدیهم حالة من الدهشة الأمر الذی یدفعهم إلى التساؤل عن ماهیّة هذه الجاذبیّة التی تشدّ الناس كلّ هذا الانشداد إلى أرض جدْب لا فیها ماء ولا طقس حسن ولا تتوفّر فیها أسباب المتعة والراحة؟

الحجّ بحر من الرحمة الإلهیّة

من شدّة لطف الله تعالى بعباده فإنّه لا یبخل علیهم بأیّ وسیلة من الممكن أن تؤثّر فیهم وتجذبهم ولو خطوة واحدة نحو حضرته. فهو یفتح أمام الناس سبلاً من شأنها أن تحفّز فی أنفسهم بشكل طبیعیّ التوجّه إلى الله والخضوع أمام جلاله وعظمته؛ لأنّ هذا التوجّه والخضوع هو العامل الوحید الذی یدفع الإنسان إلى الترقّی روحیّاً ومعنویّاً ویوصله إلى ذلك المقام الذی خُلق من أجله.
فالله جلّ ذكره یخاطب إبراهیم الخلیل (علیه السلام) بالقول: ادع الناس لأن یأتوا الى مكّة بأیّ وسیلة ممكنة وأن لا یتركوا الحجّ: «وَأَذِّنْ فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلَى كُلِّ ضامِرٍ یَأْتینَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمیقٍ»8، لماذا؟ لأنّ هذه المراسم هی أفضل وسیلة من شأنها أن تولّد دافعاً عالمیّاً لدى عامّة الناس. ولا یدور الحدیث هنا عن شخص واحد أو شخصین. فالمرحوم العلامة الطباطبائیّ (رضوان الله تعالى علیه) یروی عن استاذه المرحوم السیّد القاضی (قدّس سرّه) قوله: «قد یَبتلی الله أحیاناً شخصاً بالمرض أو الفقر أو ما شاكلهما لسنة كاملة من أجل أن یتفوّه بعبارة «یا الله» ولو لمرّة واحدة، فقول «یا الله» مرة واحدة له من الأثر فی سعادة المرء بحیث یستحقّ أن یقاسی الإنسان لأجله سنة من العذاب والمحنة». وبالطبع عندما یحظى جمع غفیر ملیونیّ من البشر بهذه البركات فإنّ ذلك یمثّل غایة فی القیمة والنفاسة عند الله سبحانه وتعالى. فهذا العمل یعزّز من قوّة الدین إلى أبعد الحدود؛ بحیث إنّه إذا صادف فی أحد الأعوام أن لا یتوفّر عدد كاف من الحجیج لأداء مناسك الحجّ ولا یحضر إلاّ نفر قلیل لأداء مراسم الحجّ فإنّ الله یوجب على حاكم الشرع أن یبعث إلى الحجّ جماعة على نفقة بیت المال. فالله تعالى یهتمّ كلّ الاهتمام بأن یشمل برحمته حتّى الشخص الواحد الذی یضاف إلى الحجیج.
ومن العجیب أنّنا كلّما ذهبنا إلى الحجّ یشتدّ اشتیاقنا إلیه. لقد صادفت مرّةً رجلاً أمریكیّاً جدید العهد بالإسلام كان قد ذهب إلى مكّة المكرّمة لأداء الحجّ، فسألتُه: خلال هذه الرحلة أیّ مكان شعرتَ فیه بمتعة أكبر؟ قال: «لم ألتذّ بشیء أكثر من لذّتی بجلوسی أمام الكعبة وإطالة النظر إلیها. فلقد كان هذا المنظر من اللذّة لی بحیث لم أكن على استعداد لأن استبدل به أیّ شیء آخر». ومن محاسن الصدف أنّ من مستحبّات أعمال المسجد الحرام هو النظر إلى الكعبة المشرّفة. فلقد أودع الله عزّ وجلّ فی هذه الأحجار السوداء وهذه الأرض الجدب التی لا ماء فیها ولا عشب من الجاذبیّة ما یجعل القلوب تهوی إلیها بغیة أن ینال الرحمة الإلهیّة عدد أكبر من البشر. فهو جلّ شأنه یرید أن یجعل فی الناس الأهلیّة واللیاقة لإدراك المزید من رحمته.
إذن فالحكمة الرئیسیّة من الحجّ هی تشیید الدین؛ بمعنى أنّ الحجّ یُحكِم بناء الدین ویضفی عظمة إلى عظمته. فلولا الحجّ لكان بناء الدین بناءً ضعیفاً، هامدا، ساكناً، لا رمق فیه ولَمَا استفاد الناس منه، ولَغَفل الكثیرون عنه وعندئذ سیؤدّی إلى حرمانهم من عظیم البركات؛ فی حین أنّ وجود الحجّ كان سبباً فی جعل بناء الدین أكثر رفعة وعظمة وجذبا للقلوب نحوه كی تحظى بالمزید من الرحمة الإلهیّة الواسعة.

رزقنا الله وإیّاكم إن شاء الله


1. بحار الأنوار، ج29، ص223.

2. نهج الفصاحة، ص547.

3. سورة الصافّات، الآیة 102.

4. سورة الصافّات، الآیة 105.

5. سورة الصافّات، الآیة 102.

6. سورة المائدة، الآیة 97.

7. سورة الحجّ، الآیة 28.

8. سورة الحج، الآیة 27.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...