المسؤولية الضخمة لصناع الهوية

في لقاء لسماحته مع رئيس جامعة الإذاعة والتلفزيون ومعاونيه وأعضاء تنظيم رابطة الإعلام الإسلامي[1] التاريخ: 6 شباط 2020م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

اللهُمّ كُن لوليِّكَ الحجّةِ بنِ الحسن، صلواتُكَ عليهِ وعلى آبائِه، في هذهِ الساعَةِ وفي كلِّ ساعةٍ، وليًّا وحافِظًا وقائِدًا وناصِرًا ودَليلًا وعَينًا، حتّى تُسكِنَه أرضَكَ طَوعًا وتمتِّعَهُ فيها طويلًا.

أرحّب بقدوم الأعزّة إلى هذه المؤسّسة المزيّنة بالاسم المبارك للإمام الخميني(ره)، وأنا سعيد جدًّا بما حظيتُ به من توفيق اللقاء بكم أيّها الإخوة المحترمون والأخوات المحترمات لنتبادل وُجهات النظر حول المعرفة الفُضلى لما علينا من واجبات، ولنساعد بعضَنا بعضًا للعمل بها بشكل أحسن.

الثورة الإسلامية ظاهرة تاريخية اجتماعية عظمى

كان انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران ظاهرةً تاريخيّة اجتماعيّة عظمى ما كان ليتنبّأ بتحقّقها أشدّ الأشخاص تفاؤلًا، بالأخّص النجاحات التي حقّقَتها الثورة خلال هذه المدّة وما خلّفَته من بركات طيلة هذه الأربعين عامًا، والتي تزداد ازدهارًا وإثمارًا يومًا بعد يوم. أنا شخصيًّا لا يَخطُر في بالي أحد كان بإمكانه التنبّؤ جيّدًا بهذه النتائج، بل كانوا، في الأعمّ الأغلب، ينظرون إليها بعين الشك والريبة. لكنّ الثورة، ولله الحمد، أثمرَت عن نتائج وبركات أكثر بكثير ممّا كان يتوقّعه المتفاؤلون. صحيح أنّ البعض، وعلى خلفيّة ما يحمله من عقليّة خاصّة، قد لا يرى لهذه التحوّلات قيمةً تُذكر، وهو ما أظنّه نتاجَ ما يعانيه هو من ضعف فكري، لكن إن كان لدينا إلمام بالقضايا الثقافيّة والاجتماعيّة ومعرفةٌ بالتحوّلات الثقافيّة لعرفنا أنّ تحوّلاتٍ من هذا القبيل في غضون مثل هذه المدّة القصيرة هي أشبه بالإعجاز، وإنّ حدوث مثل هذه التحوّلات في القضايا الثقافيّة وخلال هذه المدّة القصيرة هو أمر لا سابق له في مقياس الظواهر الاجتماعيّة.

الطريق إلى ذروة القيَم طويل

لكنّنا نعتقد جميعًا، على أيّة حال، أنّه ما زال أمامنا طريق طويل حتّى بلوغ ذروة القيم في هذا المجال.وإنّ من أسباب ذلك طبيعةَ العمليّة، وهو أنّ التحوّلات الثقافيّة تستغرق وقتًا؛ فحين يكون المراد هو حصولَ تحوّلات ثقافيّة في البعد الاجتماعي، وفي مجتمع يربو على الثمانين مليون نسمة، فمن المتعذّر حصول ذلك ببساطة وخلال مدّة قصيرة. لكنّ الهدف هو على جانب من العلُوّ بحيث إنّنا حين نقيس جميع هذه التحوّلات المحبَّذة بالهدف السامي نجدها ضئيلة جدًّا.

من ناحية أخرى، على الرغم من حصول هذه التحوّلات على مدى حوالي النصف قرن الأخير في أبعاد ومجالات مختلفة من حياة مجتمعنا الإنسانيّة فإنّ هذه التحوّلات لم تكن في عرض بعضها البعض؛ فمثلًا لم تجرِ جميع التحوّلات العلميّة والاقتصاديّة والإداريّة والثقافيّة والاجتماعيّة والإيديولوجيّة، ...إلخ في عرض بعضها الآخر؛ بعبارة أخرى: كان ثمّة بين جميع هذه التحوّلات أَخذٌ وعطاء، وقد ساهم معظمُها في عمليّة التطوّر في الميادين الأخرى. على سبيل المثال: لو لم يحصل عندنا تطوّر اقتصادي وبقي اقتصادنا بالحجم الذي كان عليه أوائل انتصار الثورة لما بلَغنا أبدًا ما بلغناه الآن من تطوّرات علميّة وصناعيّة؛ إذ قد كان لهذه التطوّرات أثمان، ورُفدَت لها ميزانيّات، وقد عكف أشخاصٌ لسنين على إجراء البحوث والاختبارات في هذه المجالات، وأُنفقَت تكاليف باهضة لتكون لدينا اليوم أمثال هذه الصناعات. فلو لم يكن إلى جانب هذه الأنشطة تطورٌ اقتصادي لما استطاعَت الحكومة رَفد ميزانيّة لهذه الأمور، ولما حصلَ مثل هذا التطوّر العلمي والصناعي بالتبع.

العنصر العقلاني؛ مَعْلَم السلوك الإنساني

وثمّة بين هذه الميادين ميدان يُعَدّ أُمّ الميادين الأخرى جميعًا، وهذا الميدان هو مَعلَم «السلوك الإنساني». فإنّ لأنشطة الحياة واحتياجاتها ميادينَ شتّى؛ تبدأ من تلبية الاحتياجات الجسديّة اليوميّة؛ مثل الطعام، والسكن، ...إلخ، وصولًا إلى مجالاتٍ من مثل الأمن الاجتماعي. لكن من الواضح أنّ جميع هذه الميادين لا تشترك في إنسانيّة الإنسان في عرض بعضها البعض؛ فإشباع البطن ليس من خصائص الإنسان وحسب، بل هو حاجة موجودة عند الحيوانات أيضًا، وكذا الحال بالنسبة إلى الأمور الجنسيّة، وحتّى لو اختلفَت الكيفيّة من حيوان إلى آخر، لكنّ الأصل في الجميع واحد. فلا يبدأ الفعل الإنساني إلّا حين يكون «العنصر العقلاني» فيه فاعلًا؛ وهو أن ندرك لماذا نفعل الفِعل، وما الهدف من ورائه؟ أنْ نضعَ نصب أعيننا هدفًا ساميًا ونجعل من جهودنا وسيلةً لبلوغه.

على أنّ للعقلانيّة نفسِها درجاتٍ؛ فمن الأهداف مثلًا هو أن يكون لأفراد المجتمع عِزّ وشرف؛ وهو أن لا يحتاج الفرد لغيره، ولا يمدّ له يد المسألة، وهذه بحد ذاتها قيمة معنويّة يمكن للفرد أن ينالها. لكن ثمّة قيم معنويّة خاصّة بأولياء الله ليس من السهل حتّى أن نتصوّرها بالنسبة لأنفسنا. جميع هذه القيم إنسانيّة، لكن ثمّة لها درجات، ولا بد لدرجتها الأولى أن تكون أعلى من مستوى سائر البشر؛ بمعنى أنّ علينا أن نتّخذ «هدفًا عقلانيًّا» ونجعل من أفعالنا مقدّمة لبلوغ هذا الهدف. فإن اقتصرَ هدف إنسان على إشباع بطنه فبماذا سيختلف عن الحيوان يا ترى؟! القرآن الكريم هو الآخر يقول في بعض الناس: (أُولئِكَ كَالأَنعامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ[2] فعلى الرغم من جميع المزايا الموجودة في طبيعة هؤلاء الناس فإنّهم قد جعلوا أنفسَهم وسلوكَهم في مستوى الأنعام، إذ ليس هَمّهم سوى إشباع بطونهم وسائر الشؤون البهيميّة الأخرى.

العلاقة بين المُدرَكات والقيم

قلنا إنّ النشاط لا يتّخذ شكلَه الإنساني ما لم يكن لعنصر العقل فيه دور؛ وهو أن ندرك ما الذي نسعى وراءه؟ وما هدف سعينا؟ وما قيمة ذلك الشيء؟ وهاهنا يتبلور مفهوم يُطلق عليه «القيم». إنّ مفاهيم من قبيل العزّة، والاستقلال، والشرف هي مفاهيم قيميّة. وبدراستنا لها نستنتج أنّ مثل هذه القيم، وكذا الترغيب فيها، والتعلّق بها هي أمور تابعة لبعض الإدراكات الأخرى؛ إذ علينا أوّلًا أن نَعرِف أنفسَنا هكذا: إنّ وجودَنا أفضل من وجود الحيوانات وأشرف منها، وذلك لكي نهتَمّ بعدم تبديد هذه الثروة التي وهبَنا الله إيّاها ولا نجعل أنفسنا في عداد الأنعام.

هذا الفَهم لا بد أن يتولّد فينا، وهو مفهوم يُصنَّف في عداد القيم، لكنه يختلف عنها بنوعيّة المفهوم؛ فالقيم هي أكثر ما ترتبط برغباتنا؛ وهو: ماذا نحبّ؟ وماذا نشتهي؟ وإلى ماذا نحب أن نصل؟ أمّا الـمُدركات فهي تقتصر على بُعد انعكاس الواقع. لكنّ الاثنين يسيران جنبًا إلى جنب، ويوجد بينهما تبادل للأخذ والعطاء.

إنسانيّة الإنسان هي رهن المعتقدات والقيم

إذًا باستطاعتنا القول: إنّ إنسانيّة الإنسان هي رَهن مُعتقَداته وقيمه؛ فإنْ تقرّرَ أن يكون لعنصر العقل دور رئيس في حياتنا فستتغيّر إدراكاتُنا للوجود، وستختلف عن إدراكات الحيوانات، وهي التي يُطلق عليها في اللغة المعاصرة «الرؤية الكونيّة». هذا الإدراك هو الإدراك المرتبط بعالم الوجود؛ وهو أنّه: أيُّ عالَم هو عالم الوجود؟ وما هو الإنسان؟ وما هي منزلته في هذا العالم؟

وحين ترتبط الرؤية الكونيّة بالقيم والرغبات والترغيبات فسيستجد لها مفهوم يُدعى «الإيديولوجية». ولستُ الآن في صَدد بيان صحّة هذه المصطلحات من سُقمها، بل أريد الإشارة إلى هذه المفاهيم باللغة التي نفهمُها. لعلّ أفضل تعبير نستعمله لها هو المعتقَدات والقيم؛ فأَنْ نحدّد، في مجال الإدراكات، أيَّ معتقَد نحمل حول الوجود؟ وأن نعرف، ضمن حيّز السلوكيّات، ماذا نريد؟ وما الذي نهواه؟ وما القيمة التي نراها له؟ فإنّه ثمّة بين القيم والمعتقَدات ترابط طبيعي ومنطقي؛ بعبارة أخرى: إنّ الإدراكات تتقدّم نوعًا ما على القيم؛ ذلك أنّه ما لم نعرف أنفسَنا لن نعرف قيمتنا.

الأديان هي المنبع الوحيد للإيديولوجيّة والرؤية الكونيّة الصائبة

يخبرنا تاريخ الثقافة العالميّة أنّ تحوّلات كبيرة حصلَت ومذاهب شتّى ظهرَت، على مستوى المعتقَدات وعلى صعيد القيم على حدّ سواء، منذ قرونٍ قبل ميلاد المسيح وإلى يوم الناس هذا، ومن الأمثلة على ذلك ما يوجد في العالم من اختلاف بين المذاهب الفلسفيّة.

نحن نعتقد أنّ الصحيح من بين جميع هذه المذاهب والتحوّلات الحاصلة وما يجب الوثوق به هو ما أنزلَه الله تعالى على البشر بواسطة الأنبياء(ع)؛ فالرؤية الكونيّة الصحيحة هي ما قالَه الله جلّ وعلا؛ أي إنّ لنا خالقًا قد خلَق العالم على أساسٍ من الحكمة، لا عن اعتباط وعبث. فالله عزّ وجل يقول: (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلين[3] ويقول: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُون[4] أتظنّون أنّكم في عالم الخلقة مجرّد أُلعوبة؟! إنّ لكل شيء حسابًا، ومن ورائه حكمة. وعليه فإنّ الرؤية الكونيّة الإلهيّة مبنيّة على نظام حكيم يسود الوجود، وهو نظام صادر من الله سبحانه وتعالى، ويقَدَّم إلى الناس بواسطة رُسُله.

القضيّة في مجال القيم أيضًا هي أنّه: وراء ماذا يجب أن نسعى؟ وأيّ الأشياء هي أكثر مطلوبيّة لنا بحيث إن حصلنا عليها لا نندم؟ فلربّما حدَث في حياة معظمنا تقريبًا أنّنا نظن، في وقت من الأوقات، أنّ الشيء الفلاني مطلوب لنا، ونجتهد مدّةً من الزمن للحصول عليه، لكن ما إن نحصل عليه ويصبح في متناولنا ندرك أنّنا كنّا مخطئين وأنّ هذا الشيء لم يكن كما ظنَنّا، وليس هو بالقيمة التي كنّا نتصوّر! نحن نعتقد بأنّه: كما أنّ ما علَّمَنا اللهُ تعالى إيّاه فيما يخُصّ الوجود هو الحق، فإنّ ما ألهمَنا به بخصوص القيَم أيضًا هو أكثر مطلوبيّة، وأنّ من المناسب بمكان أن نُنفق كل وسعنا وقدراتنا للحصول عليه.

إحياء الثقة بالنفس في ضوء الثورة الإسلاميّة

لقد وقعَت في تاريخ حياتنا ظاهرةٌ أمسَت سببًا في تحوُّلٍ في الإدراكات والقيَم على مستوى مجتمعنا. ثم اتّسعَت هذه الظاهرة حتّى صدرَت إلى المجتمعات القريبة، والمجاورة، ومن ثمّ إلى العالم كلّه، وهي التحوّل الذي حصل قبل إحدى وأربعين عامًا في إيران. إنّها ظاهرة عجيبة، ما زلنا نعجز عن تقييم عظمتها. سنين طوال يجب أن تمضي قبل أن يتّضح كيف حصلَت هذه الظاهرة، وما البركات التي جلبَتها. لقد حصل هذا التحوّل على يد رجل لم يكن يتمتّع بقدرات مادّية. حتّى حياتَه الخاصّة كان يسيِّرها بشقّ الأنفس! فكيف استطاع أن يدفع العالم إلى مثل هذ الحراك، ويبعث فيه هذه التغيّرات السريعة؟!

تدلّ هذه التأثيرات على أنّ الثورة الإسلاميّة كانت مبدأ تحوُّلٍ في رؤيتنا الكونيّة وإيديولوجيّتنا. لقد كانت إدراكاتنا قبل الثورة عبارة عن قراءاتٍ سطحيّة وصبيانيّة للحياة. في ذلك الزمان كان يُروَّج في المدارس والمراكز العلميّة والإعلام أنّ الحياة الفضلى هي أن نتشبّه بدولةِ كذا الأوربّية. وكان إذا جرى الحديث عن أورُبّا تفغر الأفواه ويقال: أين نحن من أوربّا؟! إنّ كل ما لدينا من أورُبّا؛ السيّارة التي نستقلّها الأوربّيون هم الذين يصنعونها، وكذا الطائرة! فأنّى لنا أن نصل إلى ما وصلوا هم إليه؟! كان ثمّة في مجتمعنا ضربٌ من انهزام الذات؛ فكنّا، على صعيد القدرات، نرى أنفسنا في منتهى الضعف والعجز، وعلى مستوى القيم نفكّر بمنتهى الصبيانيّة. كانت إحدى الشخصيّات السياسيّة الشهيرة عندنا في زمان الحركة الدستوريّة تقول: "إنّنا لن نتقدّم حتّى نصبح غربيّين من قمّة رأسنا إلى أخمص قدمنا!" وهو كلام يكشف كلُّ حرفٍ فيه عن حالةِ انعدام الهويّة التي كنّا نعانيها؛ ومعناه: إنّنا صفر اليدَين! هذا على حين أنّ الدول الأورُبّية هذه نفسها كانت في عصر من العصور تشعر بهذا الشيء ذاته تجاه الدول الشرقيّة عمومًا، وبلدنا إيران خصوصًا. كانوا لا يُحسنون حتّى إدارة حياتهم اليوميّة العاديّة؛ هؤلاء الأوربّيون أنفسهم كانوا لا يملكون في منازلهم بيتَ خلاء، وكان ثمّة في حجُرات معيشتهم دَلوٌ للتخَلّي! يومَ كان لنا أعظم حضارةٍ عالميّة كانوا هم يقتاتون على فتات موائدنا، ومن هنا كانت العلوم تصدُر إليهم. لكن بعد أن دخلَ المسلمون أسبانيا وصاروا سببًا لظهور العلم وتقدّمه في أورُبّا، أخذَت الأوضاع بالتغيّر شيئًا فشيئًا، ونسينا هويّتَنا؛ فصرنا نحن نقتات على فتات موائدهم، وخدَمًا لهم، وممّن يجب أن يتعلّم منهم كلّ صغيرة وكبيرة!

مَن كان يصدّق أنّه في ظروف كهذه سيأتي يوم يقف فيه رجل لا قومَ له ولا عشيرة، ولا مالَ ولا قُدرة، ولا سلطة ولا حزب – يقف أمام أكبر قوّة في العالم ليقول لها: "خسئتم، سنلكُمكم في أفواهكم" ثم يُثبت ذلك عمليًّا؟! ليس بمجرّد الشعارات اللفظيّة، بل كان قولُه ينبع من قوّة في روحه، وثقة بشخصيّته وهويّة شعبه، ثم أثبتَ ذلك على أرض الواقع. إنّنا نعيش اليوم في زمان رئيسُ أكثرِ بلدان العالم تقدّمًا (بالمقاييس الدنيويّة) هو على جانب من انعدام الهويّة، والشخصيّة، والمنطق، والأدب، والفكر ما يَخجَل خمسون بالمئة من سكّان هذا البلد، على أقلّ تقدير، من أن يقولوا: نحن نعيش في بلد هذا هو رئيسُه![5] وهو بدوره لا يَعدُو كونه دميةً تحرّكها أيادي السلطة الاستكباريّة العالميّة. وقد لاحظتم كيف أنّه حين طُرحَت مسألة محاكمته، وفقًا لسياقاتهم هم، لم يحضر أيُّ شاهد للشهادة ضدّه، لأنّ الشهود يهدَّدون ويتعرّضون لخطر جاد. ومع أنّهم قالوا: إنّ لدينا شواهد، وقد بيّنوا فحوى شهاداتهم بطريقة أخرى، لكنّهم في النهاية أبَوا أن يطرحوها وقالوا: إنّ أسرار البلد وأمنه ستكون في خطر! هذا أكبر بلدان العالم الذي تتمنّى باقي البلدان أن تكون ولايةً من ولاياته!

على أيّة حال، إنّ أُسُسَ تحوُّل عظيمٍ قد أُرسيَت قبل أربعين عامًا، وهذا التحوّل في اتّساع يومًا بعد آخر؛ (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماء).[6]

ضرورة الاستقامة في الأنشطة الثقافيّة

البعض عجول ويتصوّر أنّ العمل الصحيح الناجح لا بد أن يبلغ أهدافَه العالية خلال سنة أو سنتين. أمثال هؤلاء قد يقولون: "أربعون عامًا تصرّمَت وما زلنا نشكو نقائص في مجالات شتّى؛ إنّنا لم نتقدّم بما يكفي في المجال العلمي، أو الصناعي، أو الاقتصادي، أو السياسي، بل وعلى مستوى رؤيتنا الكونيّة وإيديولوجيّتنا نحن أيضًا، بل إنّ جماهيرنا كذلك لم تصل حتّى الآن إلى هذه الرؤية الكونيّة، وليس باستطاعتها الدفاع عنها. لا بل إنّ خرّيجي جامعاتنا، بما فيها تلك التي تدرّس المعارف الإسلامية بشكل أو بآخر ليسوا بالمستوى الذي يؤهّلُهم بشكل كامل للدفاع عن هذه الرؤية الكونيّة أو عن القيم، أو التعلّق بها!

من الواضح أنّ آثار الانهزام الذاتي أمام العالم الاستكباري والتعلّق به ما زالَت مشهودة عندنا. وسبب ذلك هو أنّ التغيير الثقافي، كما أسلَفنا، لا يحصل بسهولة. ونحن مهما كنّا أقوياء فإننا – على أيّة حال - لا نملك قوّة النبي المعصوم(ص)، وليس ثمّة وَحي يُوحَى إلينا، كما أنّنا لا نصل في التضحية وأداء التكليف إلى مستوى الإمام المعصوم(ع). كم كان حجم التطوّر [الذي أَنجزه النبي(ص)] خلال الخمسين عامًا الأولى من البعثة؟ في العام ستّين من الهجرة عَمَدَ أنصار هذا الدين نفسه إلى سبط هذا النبي المعصوم(ص) - وقد كان أعزّ إنسان على وجه البسيطة حينذاك، ولم تكن فيه نقطة سلبيّة واحدة – فقتلوه أبشعَ قتلة! هكذا هي الحركات الاجتماعيّة؛ فليست القضيّة أنّ الإسلام إذا عُرِض على الناس في مَوضعٍ ما يَقبَله الجميع دفعةً واحدة بمجامع قلوبهم، وينسون جميع رغباتهم ونزواتهم، ويبدأ الجميع بالسير في المسار الصحيح. ليس الأمر بهذه الصورة؛ فالإدراكات مختلفة، والميول شتّى، والعوامل الصانعة لشخصيّة الإنسان – بدءًا من العوامل الوراثيّة، ووصولًا إلى التربية والتعليم العائلي، والبيئة الاجتماعيّة، والإعلام، ...إلخ – كلّها مؤثِّر في تركيبة شخصيّة الفرد. وحيث إنّ هذه العوامل ليست سواءً في الناس جميعًا، فإنّها تترك فيهم بصمات مختلفة. قد تمضي سنون، ولربّما قرون، طوال حتّى يتحوّل نظامٌ ثقافي إلى نظام ثقافي آخر، وتتغيّر المعتقَدات والقيم على المستوى الاجتماعي الواسع. وعليه فأنْ تحصل هذه التحوّلات في إيران خلال هذه المدّة القصيرة فهذا عجيب للغاية، وإنّ عدم بلوغ الأهداف جميعًا ليس خلاف المتوقَّع. لا بد لنا في هذا الطريق من الصبر، وأن نعمل بإصرار وجِدّ، ولنكن على ثقة بأنّ الثمار ستكون أفضل يومًا بعد آخر.

الإنسان كائن ذو بعدين

النقطة الأخرى هي أنّ خاصّية طبيعة الإنسان تقضي بأن تظهر في داخله تحوّلات إيجابيّة وسلبيّة معًا. فباستطاعة الإنسان، بحسب هويّته الشخصيّة، أن يتّخذ طريق التكامل والتقدّم والرُقِيّ حينًا، أو سبيل الانحطاط والسقوط حينًا آخر، كما من الممكن أن يأخذ مسارًا متذبذبًا فيميل تارةً إلى هذه الجهة وأخرى إلى تلك. على سبيل المثال ليس بالضرورة أن يستمرّ الشخص في الطريق الصحيح وعلى امتداده بعد أن كان قد اختاره في بداية شبابه، فقد ينحرف عن سواء السبيل، وقد يغيّر مسارَه، أو يتّجه من الشمال إلى الجنوب، أو من الأعلى إلى الأسفل، وقد تتحوّل القيم الإيجابيّة عنده إلى سلبيّة. وإنّ لهذا المثال نماذجَ رأيناها بأمّ أعيُننا، كما يمكننا أن نعثر لها على مصاديقَ في كتب التاريخ والنصوص القرآنيّة أيضًا. قصّة بَلعَم بن باعورا ذُكرَت في القرآن الكريم، وقد استعمل الله تعالى في حقّه عبارة: (آتَينَاهُ آياتِنا)، وهي العبارة ذاتها التي يستعملها للأنبياء، لكنّه يقول بعد ذلك: (فَانْسَلَخَ مِنْها... وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)؛ هو لم يُرِد ذلك، وعمل بما يمليه عليه هواه. ثمّ يشبّهه الله تعالى بالكلب، فيقول: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْب)؛ إنّه ذات الشخص الذي يقول فيه: (آتَينَاهُ آياتِنا)، والذي يقول فيه أيضًا: (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها)، لكنّه لم يُرِد ذلك فسقط؛ (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ[7] فكان أن هبط إلى مستوى الكلب. في القرآن الكريم لم يُضرَب من الكلب مثلًا إلّا مرّة واحدة، وهو في حق بلعم بن باعورا!

سر سعادة الإنسان

كائن عجيب هو ابن آدم؛ تحصل في داخله تحوّلات عجيبة، قليلة أو كثيرة، ولربّما لا يلتفت هو إليها، اللهمّ إلّا أن يتّكلَ على قوّة في منتهى الإيجابيّة. وهذا هو السر الذي من شأنه أن يحفظنا من الانحراف والسقوط، سواءً على مستوى حياتنا الفرديّة أو يحفظ المجتمعات على مستوى الحياة الاجتماعيّة، وهذا هو العامل الوحيد الذي من شأنه أن يضمن سعادتنا. الأشياء الأخرى هي عوامل تتضادّ مع بعضها البعض، ويوجد بينها تأثير وتأثُّر متبادل، فتكون نتيجتها إيجابيّة حينًا وسلبيّة طورًا.

مسؤولية الإنسان تجاه نفسه والآخرين

بالالتفات إلى المقدّمات أعلاه علينا أوّلًا أن نشكر الله تعالى أنْ خلقَنا في زمانٍ تحقّقَ فيه أضخم تحوُّل في التاريخ وأكثر إيجابيّة؛ تحوُّل في الاتّجاه الإيحابي، وشامل، وفي حالة اتّساع، وهو يتطوّر يومًا بعد آخر حتّى يعُمّ العالمَ بأسره.

ثانيًا ما دامَت هذه الفرصة قد تهيّأت الآن فعلينا أن نُفيد منها، ولا نعود إلى عهد طفولتنا وأيّام شهواتنا الصبيانيّة. علينا أن نرفع من مستوى إدراكنا للهويّة والقيم الإنسانيّة العليا، وأن نجعل مسيرة حياتنا ومناهجها في الاتّجاه الذي يعمل على نضج هذه الأمور، فلا يقهرنا شيطانُنا وأهواؤُنا، وإلّا فستميل مسيرتُنا – شئنا أم أبَينا - نحو السقوط.

ثالثًا أن لا نكتفي بحياتنا الشخصيّة ومتطلّباتنا الفرديّة، فإنّ حياةَ الإنسان وتقدّمَه يقترنان بالمسؤوليّة. وليس الإنسان مسؤولًا تجاه نفسه وعائلته فحَسب، بل تجاه الناس جميعًا. علينا أن ننظر: لأجل ماذا خلقَنا الله تعالى نحن معاشر البشر؟ إنّ الأمور التي علّمَنا اللهُ إيّاها والمؤهّلات التي وضعَها في متناولنا ليست حكرًا علينا وحدَنا، بل ليُفيد منها الناسُ جميعًا. إنّ من واجبنا أن نُطْلِع الآخرين على ما نكتسبه عن الوجود من معلومات، وما نتوصّل إليه بخصوص السلوكيّات الصائبة من قيَم ومُثُل، فالعالم متعطّش لمثل هذه الأفكار. فلدى أدائنا مسؤوليّاتنا الإنسانيّة لا بد أن نُشفق على الآخرين في جميع الأبعاد؛ سواء في مجال احتياجاتهم المادّية، أو أَمنِهم، أو إنسانيّتهم.

مَهَمّة الإعلاميين الثقيلة في هداية الناس

قلنا إنّ إنسانيّة الإنسان رهنٌ بعقلانيّة حياته. ضمان الحياة المادّية للإنسان وإشباع بطنه ليست خدمةً كبيرة له، بل إنّ الخدمة الكبيرة للإنسان هي حينما تُجعل المادّيات ممهِّدًا لنضج عقله وهويّته الإنسانيّة. وهذا الأمر يمكن إنجازه بأساليب مختلفة باختلاف الزمان. في زمان من الأزمنة لم يكن هذا يتحقّق إلّا عبر الحوار المباشر وجهًا لوجه؛ بأن يقف أحدهم ليتكلّم إلى الآخر فيستطيع التأثير فيه بعض الشيء.

ماذا كان يصنع رسول الله(ص) حين بُعث بالرسالة؟ كان(ص) يغتنم فرصة الحج، حيث لم يكن المشركون أنفسهم يتعرّضون لأحدهم الآخر وكانت تسود حالة من الأمن، فيقول للناس من جوار الكعبة المشرّفة: «هذه الأصنام التي تضعونها هنا لا تصنع لكم شيئًا، شَغِّلوا عقولكم!» هكذا كان يدعو الناس إلى التوحيد. لم يكن في ذلك الزمان طريقة أخرى، فأكثر الناس كانوا لا يتقنون حتّى القراءة والكتابة البسيطة. بعد وصول النبي الأعظم(ص) الحكم ووقوع الحرب مع المشركين جعلَ(ص) أحدَ شروط تحرير الأسرى تعليم المسلمين القراءة والكتابة. هذا كان مستوى معلومات الناس في ذلك الزمان، ولم يكن التأثير متيسّرًا إلّا عبر المشافَهة وجهًا لوجه. لكن التطوّر وصل - شيئًا فشيئًا - إلى حيث بإمكان الطفل، الذي لم يبلغ عمرَ المدرسة، أن يجلس في ركن من حجرته ويتّصل بأيّ نقطة من نقاط العالم! فهل يبقى واجبُنا في هذا الزمان، ومع هذه الإمكانيّات، بالمقدار السابق نفسه؟! أسلوب التأثير في الآخرين في ذلك الزمان كان يقتصر على التحاور المباشر، أمّا اليوم فتتوافر في حوزة الإنسان كل هذه الأدوات، حيث باستطاعة الفرد بواسطة جهاز صغير أن يتّصل بالجانب الآخر من العالم من أجل مباحثة وحوار مباشر. من الواضح أنّ التكليف لم يعد هو هو، بل إنّنا مكلّفون بمَهَمّة أضخم بكثير من الـمَهَمّة السابقة. علينا أن ندرك أنّ تكليفنا اتّسع بالنسبة ذاتها، وأنّ مسؤوليّتنا تعاظمَت ثِقَلًا مئات المرّات، وإنّ من أفضل رموز هذه المسئوليّة الإعلام ووسائل التواصل. فلو أخذتم هذه القضيّة بنظر الاعتبار بشكلها الصحيح لأدركتم على نحو أفضل قيمة وجودكم ووجود هذه الأداة المتوافرة في أيديكم؛ وهو أن تدركوا أيّ رأسمال في متناول أيديكم؟ وأنّه عوضًا عن التأثير في شخص واحد، أو عشرة أشخاص، أو مئة شخص في أحسن الأحوال، فإنّكم قادرون على التأثير في بضعة مليارات من البشر! هذه القدرة التي منحَنا الله إيّاها؛ لقد خلقَنا في هذا الزمان، ووضع بين أيدنا هذه الأداة، وجعلَنا ننعم بمثل هذه النعم. لكنّ مسؤوليّتنا ثقلَت بالمقدار ذاته؛ فعلينا أن نجتهد أكثر لمعرفة الحقيقة، ونُتقن أكثر أساليب إيصالها إلى الآخرين؛ وهو أنّه: بأيّ لغة نتكلّم؟ وما التقنيات التي نستعملها لنكون أشدّ تأثيرًا في الطرف المقابل.

إنّ من أكثر التقنيات تأثيرًا هي تلك التي تستعملونها أنتم في مجال الفن. فإنّ الأثر الذي تتركه الأعمال الفنّية في صناعة هويّة إنسان، ولا سيّما الجيل الشاب، قد يفوق مئات الكتب والجامعات. بل لربّما أدَّت مشاهدة فلم واحد إلى تغيير ثقافة جيلٍ بكامله، وإنّ أدوات هذا العمل هي في أيديكم. هذه هي مسؤوليّتكم، وهي تفوق المسؤوليّة التي كانت قبل مئة عام بآلاف المرّات. علينا أوّلًا أن نعرف ما قيمة هذه الأداة؟ ثم، في المقابل، ما الواجب الثقيل الملقى على عواتقنا باستعمالها؟ إنْ علِمْنا أنّ الله عزّ وجل يعرف أفضل سبل السعادة، وأنّه تعالى علّمَها نبيَّه(ص)، وأنّ النبي(ص) بدوره علّمَنا إيّاها، فلا بد أن تكون أكبر هواجسنا هي إيصال محتوى الدين هذا إلى العالم، أو على الأقل أن لا يختلف ما نُوصِله إلى الآخرين عن الدين ولا يتضادّ معه. على أنّ واجبَنا ليس محدودًا بذلك، بل نحن مكلَّفون بأن نوصِل الناس جميعًا إلى السعادة. فحين نرى طفلًا يتيمًا في زقاق يبكي من شدّة الجوع، نتألّم ونشعر بالمسؤوليّة. فماذا لو عرفنا أنّ إنسانًا عاقلًا في نقطة من العالم مبتلًى بهذه المشكلة، أو بمشكلة أسوأ بضعَ مرات، وأنّه يومًا ما سيبكي بدلَ الدموع دمًا بسبب الانحراف الذي جرفَه، وأنّنا كنّا نستطيع إرشاده ومنعه من السقوط في وادي الفساد هذا، فإنّ هذه المسؤوليّة في أعناقنا، وإنْ نحن لم نتولّاها فنحن مذنبون، وغير شاكرين للنعمة التي أنعم بها الله علينا.

نتائج العمل بالتكليف

خلاصة القول إنّ إحدى أثقل المسؤوليّات هي على كاهلكم. إن كانت هذه المقدّمات التي قلتُها صحيحة فإنّ علينا أن نفكّر في كل لحظة من لحظات حياتنا في أنّه كيف ننهض بمسؤوليّتنا هذه على أحسن وجه؟ فننجز بأنفسنا ما نستطيع نحن إنجازَه، أمّا ما يحتاج إنجازُه إلى مساعدة الآخرين أو تلاقح الأفكار معهم فلنُعِدّ أطروحتَه، ولنكتسب بأنفسنا على مستوى العمل مهارةَ ما يستدعي اكتسابَ المهارة، ثمّ ننقلها إلى الآخرين؛ كأن نُعِدّ كوادرَ تستطيع أداء هذه الأدوار وتنفيذ ما تمليه عليهم هذه المسؤوليّات، أملًا في ضمان سعادة الدنيا لهم، وضمان السعادة الأبديّة التي لا يمكن حسابها لنا. إنّ أقلّ النتائج المترتّبة على هذا العمل هي أنّ ضمير الإنسان سيرتاح تجاه النعمة التي أعطاه الله إيّاها من أنّه أدّى شُكرَها. فإن كان ضميرُ الإنسان صاحيًا فإنّه سيخجل تجاه مَن أسدى إليه خدمة وسيشكره. تخيّل أنّ أحدًا أهداك صَكًّا بمئة مليون! من الواضح أنّك كلّما تراه ستقول له: "أنا لا أنسى فضلك علَيّ"، خصوصًا إذا كنتَ بحاجة إلى المبلغ. فإن لم تشكره، فسيؤنّبك ضميرُك، وتحسّ بالنقص، وتتعذّب.

إنّ من واجبنا أن نسعى لمعرفة المعتقدات الإسلاميّة التي تزوّدنا برؤية كونيّة سليمة، والمنظومة القيميّة القائمة على تلك المعتقَدات – معرفتها حقّ المعرفة، ونؤمن بها، ونلتزم بمراعاتها على مستوى العمل. ثمّ نحاول إيصالها إلى الآخرين أيضًا بأكبر قدر ممكن. في مثل هذه الحالة سأكون إنسانًا عرفَ واجبَه، فيما يتّصل بالنعم التي أنعم الله بها عليه، وعمل وفقًا له. وإنّ الله تعالى، من ثم، يعلم ما يجب أن يمنحَ مثلَ هذا الإنسان. لا أحد يمكنه تصوّر الجزاء الذي أعدّه الله لإنسانٍ كهذا. يقول تعالى في قرآنه الكريم: (لَهُم ما يَشاؤُونَ فيها). لكن من حيث إنّه تعالى يعلم أنّ الذي يشاؤونه هو أمور محدودة، فإنّه يُتمّ كلامه بالقول: (وَلَدَيْنا مَزيد[8] إنّ لدينا أشياء أخرى لا تبلغها عقولُكم، وحين تَصِلون إلى ذلك المكان ستعرفون أنّ هذه الأشياء موجودة. إنّها، على أيّة حال، أشياء لا ينالها إلّا أشخاصٌ خاصّون؛ (وَرِضوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَر).[9] حين نقول: «الله أكبر» فإنّنا نعني: «إلهي، عقولُنا قاصرةٌ عن معرفتك، أنت أكبر مما نتصوّر.» والله بدوره يقول لنا: «إنّ لدينا أنواع أخرى من الـ(أكبر) أيضًا؛ فليس بمقدور أحد منكم أبدًا أن يدرك قيمة رضوان الله تعالى. هذا المقام أعلى مما تستطيع عقولكم أن تبلغه. شعاع واحد منه يسلبكم لُبّكم.

لعلّ ما كان ينتاب أميرَ المؤمنين(ع) في جوف الليل، حينما كان يقف للصلاة وسطَ بستان النخيل، بعد أعمال النهار؛ من التطواف على منازل الأيتام والفقراء، وهو حالة الغشيان التي تطرأ عليه فيسقط فجأةً أرضًا – لعلّها بسبب مشاهدته هذه اللذّات والنعم التي ينالها في ظل رضوان الله تعالى. نحن لا ندرك ما معنى هذا؟! إنّ مشاهدة هذه الأمور للحظة تَسلُب المرءَ لُبّه! مجرّد قوله تعالى: (وَرِضوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَر) يعني: اعلموا أنّها أمور أعلى بكثير [ممّا تتصوّرون]. وشرط بلوغها هو أن تعرفوا واجبكم، وتعملوا به بشكل صحيح. وكلّما ازدادَت المؤهِّلات، ازدادَت إمكانيّة رقيّكم أنتم. صحيح أنّ الواجب أثقل، لكن هذا الواجب الأثقل يتطلّب جزاءً أثقل لكم.

أسأل الله تعالى، ببركة أهل البيت(ع)، وبركة دماء الشهداء التي أُريقَت في سبيل هذه الثورة من أجل أن ننال نحن هذه السعادة، أن يوفّقَنا جميعًا لمعرفةٍ أفضلَ بواجباتنا، والعمل بها على نحو أفضل.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين

 


[1]. تنظيم شُكّل في جامعة الإذاعة والتلفزة في الجمهورية الإسلامية في إيران [المترجم].

[2]. الأعراف: الآية179.

[3]. الأنبياء: الآية17.

[4]. المؤمنون: الآية115.

[5]. يقصد من "البلد" الولايات المتحدة، ومن "الرئيس" ترامب.

[6]. إبراهيم: الآية24.

[7]. الأعراف: الآيتان175-176.

[8]. ق: الآية35.

[9]. التوبة: الآية72.

 

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...