المرحلة الثالثة

 

المرحلة الثالثة

فصل

44ـ قوله «فی انقسام الوجود إلى ذهنیّ وخارجیّ»

الظاهر أنّ تقسیم الوجود إلى الذهنیّ والخارجیّ من الأبحاث المستحدثة فی الفلسفة الإسلامیّة، حتّى أنّ الشیخ فی الشفاء لم یتعرّض له استقلالاً، بل قال فی ردّ القائلین بالثابت والحال: «وإنّما وقع اولئك فی ما وقعوا فیه بسبب جهلهم بأنّ الإخبار إنّما یكون عن معانٍ لها وجود فی النفس وإن كانت معدومة فی الأعیان ـ إلى أن قال ـ فبیّنٌ أنّ المخبر عنه لا بدّ من أن یكون موجوداً وجوداً مّا فی النفس»(1) وتبعه تلمیذه فی التحصیل(2) وشیخ الإشراق فی المطارحات.(3) وقال فی موضع آخر من التحصیل: «المعدوم فی الأعیان محكوم علیه بأحكام وجودیّة، فیجب أن یكون له وجود مّا، فإذ لیس فی الأعیان فهو فی النفس».(4)

ثمّ الظاهر أنّ الذی أوجب طرح مسألة الوجود الذهنیّ هو ردّ شبهات القائلین بثبوت المعدوم، كما هو اللائح من أكثر ما أشرنا إلیه. وأوّل من طرحها كمسألة


1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الاُولىٰ من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌289.

3. راجع: المطارحات: ص‌203.

4. راجع: التحصیل: ص‌‌489.

مستقلّة ـ فی من نعلم ـ هو الرازیّ فی المباحث المشرقیّة(1) والمحقّق الطوسیّ فی التجرید، لكنّهما أتبعاها للبحث عن زیادة الوجود على المهیّة، وكأنّهما لمّا لاحظا أنّ هذه الزیادة إنّما تكون فی الذهن بادرا إلى إثبات الوجود الذهنیّ.

وكیف كان فمعنى الوجود الذهنیّ عند مثبتیه أنّ للمهیّة وجودین: وجوداً خارجیّاً تترتّب علیه الآثار، ووجوداً آخر لا تترتّبُ علیه تلك الآثار، وهذا الوجود الثانی بما أنّه لا تترتّب علیه تلك الآثار یسمّى بالوجود الذهنیّ بالقیاس إلى الوجود الخارجیّ، وإن كان بصرف النظر عن هذه المقایسة وجوداً عینیّاً له آثاره الخاصّة به.

والمنكرون للوجود الذهنیّ على صنفین: منهم من أنكر وجود الذهن وقال بأنّ العلم یحصل بإضافة بین النفس والخارج، ومنهم من لم ‌ینكر وجود الذهن ولكنّهم أنكروا كون الموجود فی الذهن وجوداً آخر للمهیّة الموجودة فی الخارج. وهؤلاء أیضاً تفرّقوا على قولین: أحدهما أنّ الموجود فی الذهن شبح للموجود الخارجیّ یحاكیه محاكاة التمثال لذی التمثال، وثانیهما أنّ الموجود فی الذهن لا یحاكی الخارج وإنّما یرمز إلیه رمزاً من غیر أن نعرف من حقیقته شیئاً.

فعلى المثبتین للوجود الذهنیّ أن یستدلّوا أوّلاً على وجود الذهن والصور والمفاهیم الذهنیّة، وثانیاً على كونها محاكیة للموجودات العینیّة ومطابقة لها. وجمیع ما تُمسّك به لإثبات الوجود الذهنیّ ناظر إلى الجانب الأوّل من المسألة كما تلاحظ فی المتن. والحقُّ أنّ وجود الذهن والصور والمفاهیم الذهنیّة ثابت بالعلم الحضوریّ ولا یحتاج إلى البرهنة علیه، فما یذكر دلیلاً فی هذا المجال لا یعدو حدَّ التنبیه لأجل إلفات نظر الغافل ودفع ما ربما یبدو من شبهة. وأما إثبات مطابقة الموجود الذهنّی للخارجی فهو أمر وقعت حوله مناقشات عند الغربیّین ولم


1. راجع: المباحث المشرقیّة: ج‌1، ص‌41؛ والمسألة الرابعة من الفصل الأوّل من الشوارق؛ والأسفار: ج‌1، ص‌‌326ـ363؛ وشرح المنظومة: ص‌‌22ـ33.

‌یحتلّ مقامه بعدُ فی الفلسفة الإسلامیّة، واكتفى الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) لإثبات المطابقة بردّ القولین الآخرین. ولهذه المسألة صلة وثیقة بمسائل العلم والإدراك، وسوف تلاحظ تكرُّر بعض الأبحاث المذكورة ههنا فی مبحث العلم، وقد مرّ اقتراح تقدیم مسائل العلم على سائر المسائل الفلسفیّة.

45ـ قوله «ولا نرتاب أنّ جمیع ما نعقله من سنخ واحد»

دفع لإشكال مقدّر هو أنّ هذین الوجهین إنّما یثبتان الوجود الذهنیّ للكلیات والمعدومات دون الجزئیات الموجودة، فأنّه یندفع بالرجوع إلى الوجدان، حیث لا نجد فرقاً بین الفریقین فی نحو التصوّر والإدراك ولا نرتاب أنّ الجمیع من سنخ واحد، فجمیعها موجودة فی الذهن. وقد زاد فی البدایة(1) تبعاً لشرح المنظومة(2) وجهاً ثالثاً بجعل الكلّیة والصرافة وجهین، وتمسّك فی الأسفار(3) بتقدّم العلّة الغائیّة تصوّراً، وبتأثیر بعض التخیّلات كتصوّر الحموضة وغیرها فی الآثار العینیّة.

46ـ قوله «الأمر الأوّل...»

اعلم أنّ للمنكرین للوجود الذهنیّ شبهات(4) سیأتی ذكرها، ولمّا كان مفتاح حلّ جلّها التمییزَ بین الحمل الأوّلیّ والحمل الشائع تصدّى لبیان الفرق بینهما تبعاً لصدر المتألّهین،(5) وحاصل ما ذكره أنّ للمهیّة الموجودة فی الذهن حیثیّتین


1. راجع: البدایة: ص‌23.

2. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌23.

3. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌275؛ والتحصیل: ص‌489.

4. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌277ـ326؛ وج3: ص‌305ـ312؛ والفصل الثامن من المقالة الثالثة من الهیات الشفاء؛‌ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌126ـ139.

5. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌292ـ298.

مختلفتین لكلّ منها حكمها الخاصّ بها: إحداهما حیثیّة المحتوى المفهومیّ، والاُخرى حیثیّة الوجود فی الذهن. فأمّا من الحیثیّة الاُولىٰ فتحمل علیها نفسها وأجناسها وفصولها، وهو حمل أوّلیّ مناطه الاتّحاد فی المفهوم، فما یثبت لها من هذه الحیثیّة لا یتجاوز حدّ المفهوم. فمفهوم الإنسان ینحلّ إلى «الجوهر، ذی الأبعاد الثلاثة، النامی، الحسّاس، المتحرك بالإرادة، الناطق» مثلاً، وتحمل علیه تلك المفاهیم بما أنّه متضمّن لها ومتّحد بها. لكن لا یستلزم هذا الحمل كون الإنسان الذهنیّ من مصادیق الجوهر والجسم والحیوان والإنسان، بحیث یصحّ حمل تلك المفاهیم علیه بالحمل الشائع الذی مناطه الاتّحاد فی الوجود، فیتوقّع ترتّب آثارها علیه، فالإنسان الذهنیّ لا ینمو ولا یحسّ ولا یتحرّك بالإرادة ولا یعقل شیئاً. وأمّا من الحیثیة الثانیة فهو موجود عینیّ له ماهیّته الخاصّة به، وتحمل علیه بالحمل الشائع وتترتّب علیه آثارها، والمشهور أنّه كیف نفسانیّ.(1) ومن هذه الحیثیة لا تحمل علیه تلك المفاهیم المذكورة. فمعنى قولهم انّ الموجود فی الذهن متّحد مع الموجود فی الخارج من حیث المهیّة أنّ ما یحمل من المفاهیم الذاتیّة على الموجود الخارجیّ بالحمل الشائع یصحّ حملها على الموجود فی الذهن بالحمل الأوّلیّ من حیث محتواه المفهومیّ. ثمّ إنّ للمفهوم الموجود فی الذهن حیثیّةً ثالثة ستأتی الإشارة إلیها فی دفع الإشكال الرابع.

47ـ قوله «وأمّا تقسیم المنطقیّین...»

اعلم أنّ للفرد الذهنیّ ثلاثَ إطلاقات: أحدها كون الموضوع فی الحمل الأوّلی


1. وقد استشكل الحكیم السبزواریّ كونه كیفاً نفسانیّاً بالذات، فراجع: شرح المنظومة: ص‌‌31؛ وبدایة الحكمة: ص‌‌28؛ وتعلیقة الاُستاذ على الأسفار: ج‌1، ص‌‌298.

(كمفهوم الإنسان) فرداً لمحموله (كالحیوان) كما مرّ فی بیان الحیثیّة الاُولىٰ. وهو إطلاق مسامحیّ كما أشار إلیه فی المتن. وثانیهما كون مفهوم ذهنیّ فرداً لمعقول ثانٍ منطقیّ كالإنسان بالقیاس إلى الكلّی فی قولنا «الإنسان كلّی» وهو إطلاق حقیقیّ. وثالثها كون مفهوم موجود فی الذهن باعتبار وجوده فرداً من مهیّة كالكیف النفسانیّ أو مصداقاً لعنوان ثان فلسفیّ كالممكن، فباعتبار كون الذهن ظرفاً لهذا الموجود العینیّ یقال إنّه فرد ذهنیّ، وهو أیضاً إطلاق حقیقیّ بصرف النظر عن الاصطلاح الذی یفرّق بین الفرد والمصداق فیختصّ الفرد بما تحمل علیه المهیّة، ویختصّ المصداق بما تحمل علیه المعقولات الثانیة.

48ـ قوله «وإشكال ثان...»

الفرق بین الإشكالین أنّ الأوّل یختصّ بالجوهر بخلاف الثانی حیث یعمّ جمیع المقولات. وربما یتصوّر فرق آخر بینهما، وهو كون المحذور فی الإشكال الثانی أشدّ،(1) لأنّ المحذور المذكور فی الإشكال الأوّل كون شیء واحداً جوهراً وعرضاً معاً، وحیث إنّ العرض لیس جنساً عالیاً على المشهور بل هو مفهوم عرضیّ یحمل على الأجناس التسعة فلا یلزم منه اندراج شیء واحد تحت مقولتین، بخلاف المحذور المذكور فی الإشكال الثانی، لكنّه لیس بشیء، لأنّ صدق العرض على شیء لا یتحقّق إلاّ باندراجه تحت أحد الأجناس العرضیّة، وهو الكیف فی ما نحن فیه. والأولى جعل الإشكالین إشكالاً واحداً بأن یجعل المحذور اندراج شیء واحد تحت نوعین أو جنسین، وبعبارة اُخرى: صیرورته ذا مهیّتین، فإنّ المحذور المزعوم فی الإشكال الثانی لا ینحصر فی الاندراج تحت مقولتین، فمحذور تعقّل الكیف المبصر مثلاً هو اندراجه تحت نوعین من


1. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌25؛ وبدایة الحكمة: ص‌24.

جنس واحد. وقد أجاب الفاضل القوشجیّ والمحقّق الدوانیّ والسیّد صدر الدین بأجوبة اُخرى(1) عن هذا الإشكال.

49ـ قوله «وإشكال رابع...»

وهو أنّه یلزم من قبول الوجود الذهنیّ كون مفهوم واحد (كالإنسان مثلاً) كلّیاً وجزئیّاً معاً. وقد عدل فی الجواب عمّا ذكره فی وجه اندفاع سائر الإشكالات من الفرق بین الحمل الأوّلی والشائع، لأنّ حمل الكلّی والجزئیّ على الإنسان یكون حملاً شائعاً لاختلاف مفهومه عن مفهومی الكلّی والجزئیّ كلیهما، فلا یأتی الجواب المذكور. وحاصل ما أفاده فی الجواب عنه هو أنّ للإنسان الموجود فی الذهن حیثیّة اُخرى غیر حیثیّة مفهومه بما أنّه مفهوم، وغیر حیثیّة وجوده فی الذهن بما أنّه وجود عینیّ والتی هی ملاك حمل «الجزئیّ» علیه، وهی حیثیّة كونه وجوداً ذهنیّاً مقیساً إلى وجودات عینیّة متعدّدة یصحّ حمله على كلّ واحد منها. وهذه هی الحیثیّة الثالثة التی وعدنا ذكرها تحت الرقم (46) والتی تكون ملاكاً لحمل «الكلّی» علیه حملاً شائعاً. وهذا نظیر ما ذكرنا حول قضیّة «الجزئیّ جزئیّ» أنّ للجزئیّ الواقع موضوعاً فی هذه القضیّة ثلاث حیثیّات، تحت الرقم (35).

50ـ قوله «ویندفع بذلك إشكال...»

حاصل الإشكال أنّه على القول بالوجود الذهنیّ ومطابقة ما فی الذهن لما فی الخارج یلزم تحقُّق صورة المرئیّات الكبیرة بكبرها فی جزء صغیر من البدن، وهو


1. راجع: فی ما یتعلّق بهذا البحث: الفصل الثامن من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌126ـ135؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌338؛ والمطارحات: ص‌‌224 و 229؛ والمقاومات: ص‌‌133.

محال. والجواب أنّ الذهن لیس هو الدماغ بل هو من شؤون النفس المجرّدة، والصورة الحاصلة فیه أیضاً مجرّدة على ما سیأتی فی باب العلم، والقول بالوجود الذهنیّ لا یستلزم تطابق الصورة لذی الصورة من حیث التجرّد وعدمه، لأنّ التجرّد وصف وجودها الذی یحمل علیه بالحمل الشائع، والتطابق إنّما یلزم بین محتواها الإدراكیّ وبین الخارج، فالذی یحمل على الصورة من الأوصاف المادّیّة یحمل علیها بالحمل الأوّلیّ، فتذكّر.

وأمّا الجواب عن هذا الإشكال بأنّ الجزء الدماغیّ وإن كان صغیراً إلاّ أنّه قابل للقسمة إلى غیر النهایة، ومن هذه الحیثیّة یكون قابلاً لانطباع صورة كبیرة فیه، فلا یجدی شیئاً. لأنّ من الواضح أنّ الكفّ مع كونها قابلة للقسمة إلى غیر النهایة لاتسع الجبل. والسرّ فیه أنّ الكبر والصغر وصفان للكم المتّصل والمقدار الهندسیّ وأمّا التناهی واللاتناهی المذكوران فهما وصفان للعدد الذی یعرض الأجزاء المفروضة من المقدار وهو كمّ منفصل. فعدم تناهی العدد المفروض لا یدفع الإشكال الوارد على صغر الحجم والكم المتّصل. على أنّ العدد الغیر المتناهی لا یتحقّق بالفعل أبداً، لأنّ الأجزاء المفروضة غیر موجودة بالفعل، والمتحقّق بالفعل هو الكلّ الواحد، وكلّما تحقّقت قسمة تحقّق عدد خاصّ متناه.