المرحلة السابعة

 

المرحلة السابعة

الفصل الأوّل

208 ـ قوله «ینقسم الموجود إلى الواحد والكثیر»

قد تعرّض الشیخ للبحث عن الوحدة والكثرة فی باب المقولات عند الكلام على الكم المنفصل، (1) وحیث إنّ الواحد عندهم لیس من العدد یكون البحث عن الواحد هناك من باب الاستطراد. وقد تعرّض له فی الأسفار فی مرحلة مستقلّة بعد البحث عن الماهیّة وقبل المقولات، وعكس الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فأخّره عن مبحث المقولات.

ثمّ إنّ المحقّقین اتّفقوا على أنّ مفهومی الوحدة والكثرة بدیهیّان غنیّان عن الاكتساب، لكنّ الشیخ ذكر أنّ الكثرة أعرف عند الخیال والوحدة أعرف عند العقل،(2) وتبعه على ذلك آخرون،(3) وبذلك یستصحّ أخذ مفهوم الانقسام الذی هو خاصّة العدد بل هو نفسه ـ على حدّ تعبیرهم ـ فی تعریف الوحدة، فیقال ـ «الواحد هو الذی لا ینقسم من حیث إنّه لا ینقسم» وأمّا التقیید بالحیثیّة فلأجل أن یندرج التعریف ما یكون فی نفسه منقسماً لكن له حیثیّة غیر قابلة للقسمة، فیتّصف باعتبار تلك الحیثیّة بالوحدة.


1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثالثة من نفس المصدر.

3. راجع: التحصیل: ص‌‌366؛ والمباحث المشرقیة، ج‌1، ص‌‌84؛ والشوارق: المسألة السابعة، من الفصل الثانی،ص‌‌170.

وبعد قبول أنّها لا تكون مندرجة تحت المقولات یقع التساؤل حولها من أیّ المفاهیم هی؟ ویمكن الإجابة علیه بأنّ الوحدة عرض مستقلّ غیر داخل فی شیء من المقولات العرضیّة، فإنّهم صرّحوا بعدم انحصار المهیّات فی المقولات، واختصاص المقولات بالمهیّات المركّبة من الأجناس والفصول، وقد صرّح الشیخ وبهمنیار والرازی(1) وغیرهم بعرضیّتها. لكن یشكل ذلك فی حمل الواحد على الواجب تعالى، لتعالیه عن عروض الأعراض واختصاصها بالمهیّات الجوهریّة. وقد سبق من الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) أنّ كلّ مفهوم یحمل على أكثر من مقولة واحدة أو یعمّ الواجب والممكن فإنّه لیس بمفهوم ماهویّ،(2) فلا سبیل إلاّ إلى القول بكونها من المفاهیم المنتزعة عن الوجود، فیكون من قبیل المعقولات الثانیة الفلسفیّة كما صرّح به المحقّق الطوسی(قدس‌سره)(3) ویكون الكثرة المقابلة لها أیضاً كذلك؛(4) وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ العدد لیس مفهوماً ماهویّاً، فراجع الرقم (160) وعلى ذلك فلا وجه لإصرار صدر المتألّهین ومن تبعه على نفی كونها من ثوانی المعقولات.(5) اللّهمّ إلاّ أن یراد أنّها لا تكون من المعقولات الثانیة المنطقیّة مما یكون الاتّصاف بها أیضاً فی الذهن، فافهم.

لكن لكلامه تأویل آخَرُ وهو أنّ مفهوم الوحدة كمفاهیم الوجود والوجوب والإمكان وإن كان یعدّ من المعقولات الثانیة الفلسفیّة بما هو مفهوم إلاّ أنّ مصداقه نفس حقیقة الوجود العینیّة، فالمراد بكون الوحدة من الحقائق الخارجیّة أنّ مصداقها هو حقیقة الوجود الخارجیّة.


1. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص‌‌366؛ والمطارحات: ص‌‌246؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌86 و 87؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على الشفاء: ص‌‌94ـ100.

2. راجع: الفصل الأوّل من المرحلة السادسة من المتن.

3. راجع: المسألة السابعة من الفصل الثانی من الشوارق: ص‌‌171.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌358؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌68.

5. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌88.

ویلاحظ علیه أن المفهوم الذی یشار به إلى الحقائق العینیّة بما أنّها حقائق عینیّة هو مفهوم الوجود، فلنا أن نجعله مرآة لها بلا تعمّل واعتبار خاصّ، وهذا هو المبرّر للبحث عن حقیقة الوجود وأصالتها. وهذا بخلاف مفهوم الوحدة وما ضاهاه ممّا یحتاج إلى تعمّل ذهنیّ خاصّ، كلحاظ كون الموجود غیر قابل للانقسام، فلا یصحّ جعله مرآة للحقیقة العینیّة بما أنّها حقیقة عینیّة لا غیر. وأمّا كون الحقیقة العینیّة مصداقاً لمفهوم خاصّ كیفما اتّفق فلا یوجب وجود حقیقة عینیّة بإزاء ذلك المفهوم بما أنّه ذلك المفهوم، فتبصّر.

209 ـ قوله «قالوا: إنّ الوحدة تساوق الوجود»

صرّح به فی التجرید،(1) وقال صدر المتألّهین: «اعلم أنّ الوحدة رفیق الوجود یدور معه حیثما دار، إذ هما متساویان فی الصدق على الأشیاء، فكلّ ما یقال علیه إنّه موجود یقال علیه إنّه واحد».(2)

ویلاحظ علیه أنّ الوحدة تحمل على المفاهیم والماهیّات بصرف النظر عن وجوداتها كالوحدة النوعیّة والجنسیّة، فلا یكون الوجود والوحدة متساویین فی الصدق. اللّهمّ إلاّ أن یراد إمكان حمل الوجود علیها ولو كان باعتبار وجودها فی الذهن، فافهم.

وقد اُورد علیه أیضاً بالنقض بالموجود الكثیر حیث یصدق علیه الوجود دون الوحدة. وقد أجاب عنه فی الأسفار بما حاصله أنّ الوحدة كالوجود على أنحاء شتّى، وكلّ وحدة خاصّة یقابلها كثرة خاصّة، والوحدة المطلقة یقابلها الكثرة المطلقة، كما أنّ الوجود المطلق یقابله العدم المطلق. لكنّ العدم


1. راجع: المسألة السابعة من الفصل الثانی من الشوارق: ص‌‌169.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌91.

المطلق لا خبر عنه فكذلك الكثرة المطلقة لا وجود لها، إذ كلّ موجود فله وحدة ولو بالاعتبار.(1)

وحاصل ما أفاده الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) أنّ تقسیم الموجود إلى الواحد والكثیر یحصل بقیاس الموجودات بعضها إلى بعض، كما أنّ تقسیم الموجود إلى الخارجیّ والذهنیّ وإلى ما بالفعل وما بالقوّة أیضاً كذلك. وبعبارة اُخرى: كلّ موجود من حیث هو موجود فهو واحد، وهذا هو الوحدة العامّة كالخارجیّة والفعلیّة العامّتین الشاملتین لجمیع الموجودات. ثمّ إذا قایسنا هذه الموجودات المتّصفة بالوحدة بعضها إلى بعض وجدنا بعضها متّصفاً بالانقسام كالأعداد دون بعضها الآخر كالواحد، فإذا أخذنا هذا الاختلاف بعین الاعتبار صحّ تقسیم الموجود إلى الواحد والكثیر، وهاتان الوحدة والكثرة هما الوحدة الخاصّة والكثرة الخـاصّـة.

ویلاحظ علیه أنّ ما یكون بالذات واجداً للانقسام بالفعل ـ على ما زعموا ـ هو العدد، وقد حقّقنا أنّه أمر اعتباریّ لا وجود حقیقیّاً له، وأمّا المعدودات فلیس لمجموعها وجود ولا وحدة، وأمّا كلّ واحد منها فله وجود ووحدة إلاّ أنّه لا یتّصف بالكثرة. وأمّا الوحدات غیر الحقیقیّة فسیأتی أنّها مجازیّة لا یصحّ عدّ البحث عنها بحثاً فلسفیّاً. فتقسیم الموجود إلى الواحد والكثیر لا یرجع إلى محصَّل. نعم، یصحّ تقسیم الموجود إلى ما لا یوجد له إلاّ مصداق واحد كالواجب تعالى وكالعقول على القول بانحصار كلّ نوع منها فی فرد، وإلى ما یوجد له مصادیق كثیرة كالنفوس والمادّیات. وكثرة الموجودات وإن كانت ملازمة لضعف وجودها، لكن لیس معنى ذلك التشكّك بین الواحد والكثیر، فلیس الإنسان الواحد بأشدّ وجوداً من الناس الكثیرین حتّى بالتشكیك العامّی.


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌91.

ثمّ إنّ الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) أضاف فی آخر كلامه كما فی تعلیقته على الأسفار(1) أنّ السرّ فی انقسام الموجود إلى قسمین مع صدق أحدهما على مطلق الموجود أنّ الوجود حقیقة مشكّكة، فللحقیقة فی نفسها أوصاف كالوحدة والخارجیّة والفعلیّة، وللمراتب المختلفة أوصاف تحصل من مقایسة بعضها إلى بعض.

وقد أشرنا سابقاً إلى ما فی إرجاع هذه الاختلافات إلى التشكیك من الشكّ، فلیس ملاك كلّ تقسیم للموجود هو اختلاف المراتب، ولیس كلّ تشكیك مستلزماً لتقسیم یكون أحد القسمین فیه صادقاً على مطلق الموجود، كما أنّ العلّة أشدّ وجوداً من معلولها مع أنّ العلّیة لیست صفة عامّة لجمیع الموجودات.

الفصل الثانی

210 ـ قوله «الواحد إمّا حقیقیّ وإمّا غیر حقیقیّ»

الواحد غیر الحقیقیّ لیس واحداً حقیقةً، فلا یكون تقسیم الواحد إلى الحقیقیّ وغیر الحقیقیّ تقسیماً حقیقیّاً، فلا یفید إلاّ بیان المصطلحات.

211 ـ قوله «إمّا ذات هی عین الوحدة»

إذا كانت الوحدة منتزعة من نفس الوجود كان كلّ وجود عین الواحد مصداقاً. فالأولى تعریف الواحدة الحقّة بما یمتنع فرض ثان لها، وتنحصر فی الواجب تعالى.

212 ـ قوله «والأوّل إمّا نفس مفهوم الوحدة وعدم الانقسام»

لو اعتبر الوحدة كمهیّة حقیقیّة كما یعتبرون العدد كذلك كان لهذه القسمة وجه،


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌90.

لكن قد عرفت أنّ الوحدة والكثرة مفهومان انتزاعیّان من قبیل المعقولات الثانیّة الفلسفیّة، ولیس بإزاء شیء منهما مهیّة متحقّقة فی الخارج.

213 ـ قوله «إمّا وضعیّ كالنقطة الواحدة»

یعنی بالوضعیّ ما یقبل الإشارة الحسیّة، لكن النقطة لا وجود حقیقیّاً لها وإنّما هی طرف الخطّ، والطرف أمر عدمیّ.

والأولى فی بیان أقسام الوحدة أن یقال:

الوحدة إمّا أن تكون صفة للوجود أو لغیره. أمّا الوحدة التی هی صفة للوجود فإمّا أن تكون صفة لوجود یمتنع فرض ثان له كالواجب تعالى وتسمّى وحدةً حقّةً، وإمّا أن تكون صفة لما یمكن فرض ثان له وتسمّى وحدة عددیّة. والواحد بالعدد إمّا أن یمتنع انقسامه بحیث لا یمكن تبدّله إلى الكثیر كالمجرّدات وإمّا أن لا یمتنع بل یمكن تبدّله إلى الكثیر كما فی المادّیات وتسمّى وحدةً اتّصالیّة.

وأمّا الوحدة فی غیر الوجود فإمّا أن تكون صفة لمفهوم ذهنیّ غیر ماهویّ كوحدة مفهوم الوجود ومفهوم المهیّة، وامّا أن تكون صفة لماهیّة یعتبر لها وجود فی الخارج، فإن كانت المهیّة تامّة سمّیت وحدةً نوعیّة وإلاّ سمّیت وحدة جنسیّة. وأمّا الوحدة الفصلیّة فهی ملازمة للوحدة النوعیّة ولذلك لا یعتبرونها قسماً برأسها.

ثمّ إنّهم ذكروا أقساماً اُخرى للوحدة كالوحدة الصناعیّة وغیرها من الوحدات الاعتباریّة ولا یصحّ عدّ البحث عنها بحثاً فلسفیّاً.

214 ـ قوله «كالوجود المنبسط»

الوجود المنبسط فی الأصل اصطلاح عرفانیّ، ویمكن تطبیقه بحسب النظر

الفلسفیّ على الصادر الأوّل، حیث إنّه ببساطته واجد لكمالات مادونه. وأمّا تفسیره بحیث لا یقبل هذا التطبیق فغیر مقبول بحسب هذا النظر.

الفصل الثالث

215 ـ قوله «من عوارض الوحدة الهوهویّة»

قال شیخ الإشراق: «ومن لواحق الواحد الهوهو، وهو أن یكون ذات واحدة لها اعتباران یشار إلیها أنّ صاحب هذا الاعتبار بعینه ذو ذلك، كقولهم هذا القائم، هو الطویل».(1) وقال فی موضع آخر: «ومن لواحق الوحدة الهوهو، ومن لواحق الكثرة الغیریّة».(2)

واعتبار الهوهویّة من عوارض الوحدة إنّما هو بالنظر إلى أنّها لا تتحقّق إلاّ إذا لوحظ جهة وحدة بین شیئین، بخلاف الغیریّة التی یوصف بها الكثیر بالنظر إلى عدم لحاظ الوحدة بین آحاده. والذی یعتبر فی مطلق الحمل هو أعمُّ من الوحدة والاتّحاد، فإن فی أقسام الحمل ما لا اختلاف فیه بین الموضوع والمحمول إلاّ بحسب الفرض أو اللفظ أو بحسب الوجود الذهنیّ الذی لا یلاحظ فیه كما فی الحمل الأوّلیّ مثل «الإنسان إنسان» والاتّحاد لا یكون إلاّ بین شیئین.

ومن جانب آخر فإنّ الوحدة والاتّحاد لا یساوقان الحمل، لأنّ الحمل یختصّ بالقضیّة بخلافهما، اللّهمّ إلاّ أنّ یعمّم إلى الوجود العینیّ، فلیتأمّل.

ثمّ إنّ الهوهویّة المعتبرة فی الحمل كما أنّها تحتاج إلى جهة وحدة بین


1. راجع: التلویحات: ص‌‌27.

2. راجع: المطارحات: ص‌‌311؛ وراجع: الفصل الأوّل من المقالة السابعة من إلهیّات الشفاء.

الموضوع والمحمول كذلك تحتاج إلى جهة كثرة بینهما یبرّر جعلهما موضوعاً ومحمولاً. فإمّا أن یكون الوحدة حقیقیّة دون الكثرة كما فی حمل مفهوم على نفسه أو حمل وجود على نفسه ـ إذا كان له فرض صحیح ـ وإمّا أن یكون بالعكس كحمل القائم على الطویل.

وأمّا الوجود العینیّ فقد مرّ أنّ كلّ موجود بما أنّه موجود فهو واحد، فلا یعقل الاتّحاد فی وجود واحد إلاّ باعتبار اختلاف مفهومین محمولین علیه، حیث یكون الاتّحاد حقیقةً بین المفهومین، ویكون وصف الوجود هو الوحدة دون الاتّحاد. وأمّا الاتّحاد بین وجودین فقد حصروه فی موجودین یكون أحدهما بالقوّة والآخر بالفعل كاتّحاد الهیولى بالصورة، وربما صرّحوا بامتناع الاتّحاد بین موجودین بالفعل. لكن یلزمهم القول بأنّ وجود الصورة الجسمیّة وغیرها فی الحیوان والإنسان إنّما هو بالقوّة، وأن البدن بما له من الصورة الجسمیّة والطبیعیّة غیر موجود بالفعل فی الإنسان الحیّ، وإنّما یصیر موجوداً بالفعل بعد مفارقة النفس!!

والحقّ أنّ الاتّحاد بین وجودین یكون على أنحاء شتّى: أحدها أن یكون وجود واحد ذا شؤون مختلفة عَرْضاً، فیكون كلّ شأن منه متّحداً مع آخر، كما أنّه متّحد بنفس المتشأّن. وثانیها أن یكون الوجود ذا مراتب طولیّة مشكّكة بالتشكیك الخاصّیّ ممّا لا استقلال فیه للمرتبة الدانیة دون المرتبة العالیة، فیكون كلّ مرتبة منها متّحداً مع اُخرى. وثالثها أن یكون أحد وجودین اثنین متعلّقاً بالآخر ناعتاً له، سواء كان أحدهما عرضاً والآخر جوهراً، أو یكونا كلاهما جوهرین كالنفس والبدن وقد یكون بینهما تشكیك عامّیّ. ولا برهان على الحصر فی ما ذكر.

وأمّا الحمل بین وجودین وبین مراتب وجود واحد وبین شؤونه العرْضیّة فهو

من قبیل حمل «ذی هو» على ما سیأتی بیانه. وحمل الحقیقة والرقیقة أیضاً من هذا القبیل، لأنّه فی الواقع حمل بعض مراتب الوجود المشكّك بالتشكیك الخاصّیّ على بعض، ولیس شیء من مراتب الوجود عین اُخرى، بل المرتبة العالیة مقوّمة للمرتبة الدانیة، والدانیة متقوّمة بها، والعالیة واجدة لكمال الدانیة والدانیة عین الربط بها لا استقلال لها دونها. وجدیر بالذكر أنّهم صرّحوا تارة بامتناع اتّحاد الاثنین(1) واُخرى باتّحاد الهیولى والصورة واتحاد العاقل بالمعقول، واتّحاد الآحاد بالعدد، ممّا یحتاج الجمع بین أقوالهم إلى تأویل، فلیتأمّل.

216 ـ قوله «واعترض علیه...»

ذكر هذا الاعتراض فی الأسفار(2) ونقل ثلاثة أجوبة عنها ثالثها لأستاذه،(3) واستشكل على الجمیع ثمّ أجاب بما ذكر حاصله فی المتن. والأولى أن یقال: إنّ ملاك الحمل أحد الأمرین: وحدة الموضوع والمحمول مفهوماً كما فی الحمل الأوّلیّ الذاتیّ، أو اتّحادهما وجوداً كما فی الحمل الشائع الصناعیّ، فإن كان كلاهما أو أحدهما من المعقولات الثانیة كان مصداقها واحداً حقیقة، وأمّا إذا كان كلاهما. من المعقولات الاُولى وكان لكلّ منهما ما بإزاء عینیّ غیر ما للآخر فلابدّ من الاتّحاد الوجودیّ بینهما بأحد الأنحاء المذكورة سابقاً،(4) وحینئذ فالمفهوم الحاكی عن أحد الموجودین لا یحمل على الآخر مواطاةً، بل بالاشتقاق أو إضافة «ذی» ونحوه، فلا یحمل مفهوم عرض على جوهر، بل لابدّ من أخذ مفهوم عرضیّ مشتقّ أو إضافة لفظة ذی ونحوها. والجزء المقداریّ مضافاً إلى أنّه لا وجود له بالفعل لیس عین


1. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌90؛ والأسفار: ج‌2، ص‌‌97.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌95ـ97.

3. راجع: القبسات: ص‌‌201ـ203.

4. راجع: الرقم (166).

الجزء الآخر کما أنّه لیس عین الكلّ، فلابدّ من أخذ مفهوم اشتقاقیّ عنه حتّى یحمل على غیره من الأجزاء أو على الكلّ. ثمّ إنّه یمكن إسراء الإشكال إلى آحاد العدد بناءً على قولهم بوجود العدد فی الخارج واشتماله بالفعل على الآحاد واتّحاد الوحدة والكثرة فیه، بأن یقال: كلّ واحد من آحاد العدد متّحد بالآخر فی الكم المنفصل ومغایر له فی وجوده الخاصّ، فیلزم أن یجوز حمل بعضها على بعض وعلى الكلّ، ولا یدفعه ما ذكره صدر المتألّهین من الجواب.

217 ـ قوله «ولمّا كان هذا الحمل ربما یعتبر فی الوجود العینیّ...»

الحمل من المعقولات الثانیة المنطقیّة ممّا یكون المتّصف به وبطرفیه فی الذهن. فاعتبار الحمل فی الوجود العینىّ مشكل، إلاّ أن یراد حمل مفهومین مشیرین إلى الوجود العینیّ مثل أسماء الإشارة. ویمكن أن یراد بالحمل مطلق الاتّحاد، فیعتبر اصطلاحاً عامّاً مشتركاً بین معنى منطقیّ ومعنى فلسفیّ، فلیتأمّل.

218 ـ قوله «وإنّما یتحقّق فی الوجود النعتیّ»

الوجود النعتیّ هو الوجود الرابطیّ الذی ینعت غیره كالصور والأعراض. ومن مثل هذا الوجود یؤخذ مفهوم مشتقّ یحمل على المنعوت به. والسرّ فیه اشتمال المشتقّ على مفهوم الارتباط أو على مفهوم إضافیّ مثل «ذی». ولا یعنی ذلك حمل الوجود الرابطیّ بما هو وجود على غیره، بل الأمر من حیث المفهوم راجع إلى التعمّلات الذهنیّة، ومن حیث اللفظ راجع إلى قواعد اللغة والنحو.

219 ـ قوله «وههنا نوع ثالث»

قد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (215).

الفصل الرابع

220 ـ قوله «وبذلك یندفع...»

من القواعد المعروفة أنّ ثبوت شیء لشیء فرعٌ لثبوت المثبَت له، وهی تناظر المثَل المشهور «ثبّت العرشَ ثمّ انقش» وقد اُورد على كلّیتها بأنّ ثبوت الوجود للمهیّة لیس فرعاً على ثبوت المهیّة، حیث لا ثبوت لها وراء الوجود. وقد التزم بعض بالاستثناء، وردّ بأنـّه غیر جارٍ فی القواعد العقلیّة، وصحّحها بتبدیل الفرعیّة من الاستلزام وهو فی الحقیقة تسلیم للإشكال. وأجاب الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) تبعاً لصدر المتألّهین بأنّ ثبوت الوجود للمهیّة خارج عن القاعدة تخصّصاً لأنّه لیس ثبوتَ شیء لشیء بل إنّما هو ثبوت الشیء، ولذا التزم بعدم الرابط فی الهیّة البسیطة،(1) وقد مرّت المناقشة فیه تحت الرقم (39).

والأولى أن یقال: إنّ للقاعدة نوعین من الموارد: أحدهما ثبوت شیء عینیّ لآخرَ كذلك فی الخارج، وثبوت الوجود للمهیّة لیس من هذا القبیل، فإنّ الوجود عین المهیّة فی وعاء الأعیان؛ وثانیهما ثبوت محمول لموضوع فی القضیّة، وهو لا یستوجب أكثر من ثبوت الموضوع فی الذهن، فالموجود الذی یحمل فی الهلیّة البسیطة على المهیّة هو مفهوم یثبت لموضوع ثابت فی الذهن، فلا یرد النقض به على القاعدة. وحمل الموجود على المهیّة وإن كان بلحاظ الخارج إلاّ أنّه لا یقتضی إلاّ اتّحاد مصداقیهما فی الخارج، لا كون الخارج وعاء الحمل الذی یعتبر فیه التغایر بین الموضوع والمحمول، فالإشكال ناشیء عن الخلط بین المفاهیم الفلسفیّة والمنطقیّة.


1. راجع: الأمر الثالث من الفصل الأوّل من المرحلة الثانیة.

الفصل الخامس

221 ـ قوله «وتسمَّى تقابلاً»(1)

اعلم أنّ المعلّم الأوّل بعد ما تعرّض للأجناس العالیّة فی كتاب «قاطیغوریاس» الذی هو أوّل كتبه المنطقیّة تعرّض للبحث عن المتقابلات وأقسامها الأربعة،(2) وتبعه على ذلك أتباع المشّائین من فلاسفة الإسلام. فینقدح هناك سؤال: هل البحث عن التقابل هو من الأبحاث المنطقیّة أو الفلسفیّة؟ فالظاهر ممّا صنع المعلّم الأوّل وأشیاعه أنّهم اعتبروه بحثاً منطقیّاً، كما أنّ الظاهر من صدر المتألّهین وأتباعه أنّهم اعتبروه بحثاً فلسفیّاً من فروع الغیریّة المتلازمة مع الكثرة، وقد سبقهم إلیه شیخ الإشراق.

ثمّ إنّه بناءً على كون البحث منطقیّاً یقع التساؤل حوله: هل هو من الأبحاث المتعلّقة بالمعانی المفردة أو من الأبحاث المتعلّة بالقضایا؟ فالظاهر من المعلّم الأوّل هو الأوّل، لكن یرد علیه أنّه جعل التناقض تقابلاً بین الموجبة والسالبة ممّا هو ظاهر فی أنّه اعتبر هذا التقابل فی القضایا، وإن صرّح تارة بجریانه فی المحمولات،(3) واُخرى بوقوعه فی الإیجاب والسلب،(4) ولعلّه لذلك عبّر الحكماء المسلمون بالتقابل بین الإیجاب والسلب، وسیأتی الكلام فیه.

ومن جانب آخر فإنّه یرد على صدر المتألّهین ومن حذا حذوه أنّ مقسم المتقابلات إذا كان هو الموجود الكثیر فیشكل اعتبار السلب والعدم أحد طرفی التقابل، ولا ینفع الاعتذار بفرض مصداق للعدم، فإنّ هذا الفرض لا یبرّر اعتبار المجموع من الوجود والعدم موجوداً كثیراً كما لا یخفى.


1. راجع: القبسات: ص‌‌345ـ348.

2. راجع: الجزء الأوّل من منطق أرسطو، ص‌‌63.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌65.

4. راجع: نفس المصدر: ص‌‌104 و 105.

والأشبه أنّ هذا التقسیم لیس تقسیماً حقیقیّاً، وإنّما هو بیان للمصطلحات الدائرة فی الفلسفة والمنطق، فلیس هناك مقسم حقیقیّ جامع بین الأقسام، اللّهمّ إلاّ عنوان «المفاهیم المتقابلة» ومن الواضح أنّ البحث عن المفاهیم هو من شأن المنطقیّ. لكنّ البحث عن الأضداد لیس بحثاً عن مفاهیمها، فینبغی فصله عن سائر أقسام التقابل. ثمّ إنّ البحث عن تناقض القضایا وتضادّها هو بحث آخر راجع إلى تقابل الصدق والكذب، وهو غیر البحث عن تقابل المفاهیم المفردة، فلا ینبغی الخلط بینهما.

الفصل السادس

222 ـ قوله «وهو تقابل الإیجاب والسلب كقولنا زید أبیض ولیس زید بأبیض»

ربما یتراءى من كلام الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) أنّه اعتبر تناقض القضایا هو الأصل، وأنّ تناقض المفردین إنّما هو لأجل رجوعهما إلى قضیّتین هلیّتین. ویمكن أن یستظهر منه أنّ الأصل فیه هو تقابل السلب والإیجاب بما أنّهما وصفان للحكم، وأنّ وصف القضیّة بالنقیض وصف بحال المتعلّق حیث إنّ مضمون القضیّة هو متعلّق السلب والإیجاب، ویؤیّده تفسیر كلام المحقّق الطوسی(قدس‌سره) بأنّ مراده من رجوع تقابل السلب والإیجاب إلى القول هو تعلّق السلب والإیجاب بمضمون القضیّة.

وكیف كان فتناقض قضیّتین إنّما هو لأجل امتناع اجتماعهما على الصدق والكذب، كما أنّ تضادّهما إنّما هو لأجل امتناع اجتماعهما على الصدق فقط، وبعبارة اُخرى: صدق إحدى القضیّتین المتناقضتین یستلزم لذاته كذب الاُخرى، فالتناقض أصالةً یكون بین الصدق والكذب. ثمّ إنّ امتناع اجتماع الصدق والكذب لیس لخصوصیّة فی الصدق والكذب بأعینهما بل لأجل أنّ الكذب نفی للصدق، فالتناقض الأصیل إنّما هو بین الوجود والعدم.

وأمّا الأیجاب والسلب فإن اعتبر كوصفین للحكم فی القضیّة لزم الالتزام بوجود الحكم فی السالبة، وهو لا یوافق مذهب صدر المتألّهین وأتباعه، وإن اُرید بهما وجود الحكم وعدمه كان مرجعه إلى تناقض الوجود والعدم.

فالحقّ أنّ التناقض إنّما هو بالأصالة بین الوجود والعدم كمفهومین مفردین باعتبار أنّ مصداق أحدهما الوجود العینیّ ومصداق الآخر نفیه، ولا نعنی بمصداق العدم إلاّ نفی مصداق الوجود. فالبحث عن التناقض یناسب مبحث النسب بین المفاهیم فی المنطق، كما أنّ البحث عن تناقض القضایا وتضادّها له محلّه فی باب القضایا، وسیأتی الكلام على سائر أقسام التقابل.

الفصل السابع

223 ـ قوله «فی تقابل العدم والملكة»

قد عدّوا تقابل العدم والملكة قسماً مستقلاًّ لافتراقه عن التضادّ والتضایف بأن أحد طرفیه عدم بخلافهما، ولافتراقه عن التناقض باعتبار الشأنیّة فی موضوع الملكة وهو غیر معتبر فی تقابل التناقض. وقد عمّموا شأنیّة الموضوع إلى نوعه وجنسه، وقد صرّح المعلم الأوّل باعتبار الوقت،(1) لكن المتأخرین ألغوا هذا القید ووصفوا ما یشترط فیه الوقت بالمشهوری(2) ونَسَبَه فى الأسفار إلى المنطقیّین.(3) والحقّ أنّ تقابل العدم والملكة لیس قسماً برأسه بل هو قسم من تقابل التناقض اشترط فی الوجود أن یكون وجودَ صفة لما من شأنه أن یتّصف به وفی العدم أن


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌64 و 65.

2. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌99 و100.

3. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌117.

یكون عدمَ تلك الصفة، وهو أمر راجع إلى الوضع. قال المحقّق الطوسیّ فی التجرید: «وتقابل العدم والملكة، وهو الأوّل (یعنی تقابل الإیجاب والسلب) مأخوذاً باعتبار خصوصیّة».(1) ویشهد له أنّ المرودة التی هی عدم لملكة الالتحاء، تختصّ بالغلام إذا اعتبر الموضوع صنف الرجل، ویصحّ اتّصاف المرأة بها اذا اعتبر الموضوع نوع الإنسان، ولا معیار لتعیین الموضوع هل هو الشخص أو الصنف أو النوع أو الجنس إلاّ الوضع.

الفصل الثامن

224 ـ قوله «أمران وجودیّان لا یعقل أحدهما إلاّ مع تعقّل الآخر»

قد مرّ البحث عن الإضافة وعدم كونها من المفاهیم الماهویّة تحت الرقم (192 و193) وقد سبق فی المتن أنّ المضاف الحقیقیّ هو نفس الإضافة دون الموضوع المتّصف به، فتقابل التضایف یكون فی الواقع بین الإضافتین مثل إضافة الاُبوّة وإضافة البنوّة، وأمّا زید الأب وعمرو الابن فلیسا متضایفین حقیقةً ولا یتوقّف تصوّر أحدهما على تصوّر الآخر. ولا ینتقض باجتماع العالم والمعلوم فی موضوع واحد فی العلم بالذات مع أنّهما متضائفان، لأنّ التقابل إنّما هو بین العنوانین لا بین الذاتین، وقد اُجیب بتعدّد الاعتبار.

وسرّ التقابل بین المتضایفین أنّ كلّ واحد من المفهومین مشتمل على نسبة إلى الآخر، فالمفروض فیه أنّ هناك مفهوماً آخَرَ یضاف إلیه، واعتبارُهما واحداً یناقض هذا الفرض. فهذا التقابل أیضاً یرجع إلى التناقض.


1. راجع: المسألة السابعة من الفصل الثانی من الشوارق، ص‌‌179؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌103؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌556.

والحاصل أنّ تقابل المفاهیم ذاتاً ینحصر فی تقابل التناقض، فقد یعتبر مطلقاً وهو الذى سمَّوه بتقابل الإیجاب والسلب، وقد یعتبر مقیّداً بكون الوجود وجود صفة من شأن الموضوع أن یتّصف بها وهو الذی سمَّوه بتقابل العدم والملكة، وأمّا تقابل المفاهیم الوجودیّة فإنّما هو لاستلزام كلّ من المتقابلین نفی الآخر كالمتضایفین، فیكون من أقسام التقابل بالعرض، وفی الجمیع یكون التقابل بین المفاهیم.

225 ـ قوله «وقد اُورد ـ إلى قوله ـ قسیماً لقسمه»

بیان الإشكال على ما ذكره فی الأسفار(1) أنّا إذا لا حظنا أمرین متقابلین بما أنّهما متقابلان یحصل إضافة متشاكلة الأطراف بینهما، وكذا إذا لا حظنا أمرین متماثلین أو متضادّین، وبهذا الاعتبار یصحّ جعل التضایف مقسماً للتقابل والتماثل والتضادّ وغیرها، ویكون كل واحد منها قسماً من التضایف وقسیماً للآخر. ومن جانب آخَرَ فقد جُعل التضایف قسماً من أقسام التقابل ویكون قسیماً للتناقض والتضادّ. فكیف یمكن أن یكون التقابل مقسماً لأقسام یكون قسم منها وهو التضایف مقسماً لاُمور منها التقابل، فیكون التقابل قسماً لقسم من أقسامه؟ وكیف یمكن أن یكون التضادّ الذی هو أحد أقسام التقابل قسیماً له حیث یقسم إلى التقابل والتضادّ وغیرها؟

وأمّا على ما ذكره الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فحقّ العبارة أن یقال «من قبیل جعل الشیء قسماً لقسمه» لا «قسیماً لقسمه» ولَعَلَّهُ تصحیف.

وكیف كان فالجواب أنّ التقابل الذی هو مقسم للتضایف وغیره هو التقابل بالحمل الشائع، والذی هو قسم من التضایف هو التقابل بالحمل الأوّلیّ، نظیر ما اُجیب به عن إشكال كون الجزئیّ كلّیاً.


1. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌110.

الفصل التاسع

226 ـ قوله «لكنّ المشائین أضافوا...»

ظاهر الأسفار أنّ هناك اصطلاحین للأضداد: أحدهما للقدماء، والآخر للمشّائین. وقال الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فی تعلیقته على الأسفار: «وبناء الأحكام فی الأبحاث الفلسفیّة على الاصطلاح المجرّد بعید غایتَه»(1) ثمّ قام بتبیین لمذهب المشّائین وتوجیه لما اعتبروه من القیود فی تعریف الضدّین نظیر ما ذكر من البیان فی المتن. وحاصله أنّ التضادّ لیس تباینَ المفاهیم أو تباینَ الماهیّات التامّة وعدم تصادقها، فإنّ ذلك هو شأن جمیع المفاهیم والماهیّات، بل التضادّ هو أن تكون ماهیّة كلّ من الضدّین طاردة للآخر، ناظرةً إلیه وآبیةً عن الاجتماع معه فی الوجود.

ویلاحظ علیه أنّ الماهیّة ـ أیّة ماهیّة كانت ـ لا تكون فی ذاتها ناظرة إلى ماهیّة اُخرى وطاردة لها، فضلاً أن تكون لها اقتضاء عدم الاجتماع فی الوجود معها. فلیس فی مفهوم السواد مثلاً شیء من هذه الاُمور، وإنّما وجود السواد یكون بحیث لا یجتمع مع وجود البیاض، ویعرف ذلك من الخارج لامن نفس المفهوم. اللّهمّ إلاّ أن یعتبر الإضافة من المهیّات، وقد عرفت ما فیه.

227 ـ قوله «ولازم ذلك أوّلاً أن یكون هناك أمر ثالث...»

وجود الموضوع بمعناه الأعمّ للمتضادّین لا یحتاج إلى هذا البیان، ففرض أمرین وجودیّین متقابلین إنّما یصحّ إذا فرض هناك أمر ثالث لا یجتمعان فیه. ثمّ أشار إلى أنّ الموضوع بمعناه الأعمّ یشمل محلّ الجوهر أیضاً، ولذا ذهب القدماء إلى


1. راجع: نفس المصدر: ج‌2، ص‌‌111ـ112.

وقوع التضادّ بین الجواهر،(1) لكنّ المشّائین لمّا اعتبروا غایة الخلاف بین الضدّین ـ وسیأتی وجهه ـ حصروا التضادّ فی الأعراض، فمعنى الموضوع المذكور فی تعریفهم هو معناه الخاصّ بالعرض، أی المستغنی عن الحالّ.

228 ـ قوله «وثانیاً...»

لمّا نسب طرد الضدّ الآخر إلى ماهیّة الضدّ فرّع علیه أنّ هذا الطرد إنّما هو لأجل فصله(2) المتمّم لماهیّته، فاللون الذی هو جنس مشترك بین السواد والبیاض مثلاً لیس طارداً لأحدهما وإنّما فصل السواد ـ وهو «قابض نور البصر» على حدّ تعبیرهم ـ هو الذی یطرد البیاض بفصله ـ وهو «مفرّق نور البصر» ـ وهذا هو الموجب لأخذ قید «الدخول تحت جنس قریب» فی التعریف. ثمّ أشار إلى أنّ الاستقراء یفید عدم التضادّ بین الأجناس،(3) فینحصر التضادّ فی الأنواع الأخیره، فیكون الضدّان داخلین تحت جنس قریب بحكم الاستقراء أیضاً. لكنّ الوجه الأوّل قابل للمناقشة، فالمعوّل على الاستقراء لو تمّ. وقد صرّح المعلّم الأوّل بوقوع التضادّ بین جنسین.(4)

229 ـ قوله «وأمّا اعتبار غایة الخلاف...»

هذا القید هو عمدة الخلاف بین أتباع المشائین والقدماء، فاعتباره یستلزم نفی ثالث الأضداد،(5) كما أنّهم بنوا نفی التضادّ بین الجواهر أیضاً على اعتبار هذا القید. وقد صرّح المعلّم الأوّل بأنّ من المتضادّین ما یجب أن یكون أحدهما موجوداً فی


1. قال الشیخ فی التعلیقات، «فالجواهر متضادّة بصورها إذ لاتجتمع فی موضوع» (ص‌‌143).

2. راجع: المطارحات: ص‌‌315 و 316؛ وراجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌115 و 116.

3. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌104؛ وراجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌113.

4. راجع: الجزء الأوّل من منطق أرسطو، ص‌‌70.

5. راجع: المطارحات: ص‌‌314.

الموضوع، فلیس بینهما متوسّط كالفرد والزوج، ومن المتضادّین ما لا یجب ذلك فی موضوعهما كالأبیض والأسود، فیوجد بینهما متوسّط أو متوسّطات كالأدكن والأصفر وسائر الألوان،(1) ولیس فی كلامه ما یدلّ على اعتبار هذا القید.

وأمّا الشیخ فمع تصریحه فی قاطیغوریاس الشفاء بأنـّه قد یتعرّى الموضوع عن الضدّین فیكون بینهما واسطة كالسواد الصرف والبیاض الصرف فإنّ بینهما وسائط ألوان یخلو الموضوع عنهما إلیها وربما خلا عنهما إلى العدم بأن یصیر مشفّاً فتكون الواسطة سلب الطرفین من غیر إثبات واسطة خلیطة، مع ذلك اعتبر فی الضدّین الحقیقیّین غایة البعد والخلاف، وقال فی إلهیّات الشفاء: «ویكون التضادّ غایة الخلاف للمتقابلات المتّفقة فی الجنس والمادّة، وذلك لأنّه یصدق غایة الخلاف حیث كان متوسّط وحیث لم یكن ـ إلى أن قال ـ فقد بان أنّ ضدّ الواحد واحد، والمتوسّط فی الحقیقة هو الذی مع أنّه یخالف یشابه، فحینئذ یجب الانتقال إلیه أوّلاً فی التغیّر إلى الضدّ، فإنّ الأسود لذلك یغبرّ ویخضرُّ ویحمرّ أوّلاً ثمّ یبیضّ».(2)

وقد فسّر كلامه بأنّ تقابل الأوساط وكذا تقابل كلّ من الطرفین مع أحد الأوساط إنّما هو لاشتمال الأوساط على الطرفین، فتقابل البیاض والحمرة إنّما هو لاشتمال الحمرة على شیء من السواد، وتقابل السواد والحمرة إنّما هو لأجل اشتمالها على شیء من البیاض. ویشهد لهذا التفسیر وصف الواسطة بالخلیطة فی كلامه المنقول عن قاطیغوریاس. لكن یلاحظ علیه أنّ اعتبار جمیع الأوساط أخلاطاً من الطرفین مشكل جدّاً، ولا تساعد علیه التجارب العلمیّة. ولذلك ذهب بعض المتأخّرین إلى زیادة قسم آخر من التقابل سمَّوه بالتعاند، وهو التقابل بین هذه الأوساط.(3)


1. راجع: الجزء الأوّل من منطق أرسطو: ص‌‌64.

2. راجع: الفصل الأوّل من المقالة السابعة من إلهیّات الشفاء.

3. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌119 و 120.

ثمّ إن الشیخ استدلّ على نفی الضدّ الثالث بأنّ مخالفته للضدّین إمّا أن یكون فی معنى واحد من جهة واحدة فیكون المخالفان للواحد من جهة واحدة متّفقة فی صورة الخلاف ویكون نوعاً واحداً لا أنواعاً كثیرة، وإمّا أن یكون فی جهات فیكون ذلك وجوهاً من التضادّ لا وجهاً واحداً فلا یكون ذلك بسبب الفصل الذی إذ الحق الجنس فعل ذلك النوع من غیر انتظار شیء وخصوصاً فی البسائط، وقد علمت هذا، بل یكون من جهة لواحقَ وأحوالٍ یلزم النوع، وكلامنا فی نمط واحد من التضادّ».(1)

ومثله كلام صدر المتألّهین(2) المنقول فی المتن. وهذا الاستدلال مبنیّ على اعتبار المضادّة معلولاً للفصل وأنّ الفصل الواحد لا یكون علّة إلاّ لأمر واحد، وكلتا المقدّمتین ممنوعتان.

وأضعف منه ما استدلّ به فی المتن من أنّ التضادّ نسبة، ولا تتحقّق نسبة واحدة بین مزید من طرفین. فإنّه منقوض بالتضایف بین الإخوة الكثیرین. وغایة ما یثبت به على فرض تسلیم الكبرى أنّ نسبة التضادّ إنّما تتحقّق بین ضدّین اثنین، فكلّ تضادّ یكون بین طرفین، فاذا كان هناك أضداد متعدّدة تحقّق بین كلّ ضدین منها تضادّ خاصّ، لا أنّه یمتنع وجود أكثرَ من ضدّین فی الخارج، وذلك كتضایف الإخوة تماماً.

وجدیر بالذكر أنّ اعتبار التضادّ بین الحرارة والبرودة مبنیّ على اعتبارهما كنوعین من الكیف الملموس، ویمكن أن یكون البرودة عدماً للحرارة. مضافاً إلى أنّ الأشبه كون الحرارة من الجواهر بناءً على أنّها نوع من الطاقة.


1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة السابعة من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌114.

خاتمة

230 ـ قوله «اختلفوا فی التمانع الذی بین الواحد والكثیر»

قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء بعد إبطال كون التقابل بینهما من أقسام التقابل بالذات: «وإذ قد بان لك جمیع هذا فبالحریّ أن نجزم أن لا تقابل بینهما فی ذاتیهما، ولكن یلحقها تقابل، وهو أنّ الوحدة من حیث هی مكیال تُقابل الكثرةَ من حیث هی مكیل»(1) وقال فی التحصیل: «واعلم أنّ التقابل بین الواحد والكثیر تقابل المضاف، لا أنّ كلّ واحد منهما حقیقته حقیقة الإضافة، بل كلّ واحد منهما له ماهیّة معقولة ثمّ یعرض لها التضایف كما ذكرنا فی حال الخطّ والصغر والكبر، وهذا التضایف هو من حیث إنّ الوحدة هی علّة للكثرة، والعلّة والمعلول متضایفان لا من حیث إنّهما وحدة وكثرة بل من حیث إنّهما علّة ومعلول».(2)

وقال شیخ الإشراق بعد الإشارة إلى حاصل كلام التحصیل: «وهو خطأ، فإنّ الوحدة التی تبطلها الكثرة الحادثة لیست بعلّة للكثرة المبطلة لها ـ إلى أن قال ـ والتقابل من جهة تمانعهما لا من جهة علّیتهما، فلا حاصل لما ذكروا. فیجب علیهم أن یجعلوا له قسماً آخر، إلاّ أنّ المشهور فی الكتب تقابل الإیجاب والسلب والمتضایفین والمتضادّین والعدم والملكة».(3) ومثله كلام صدر المتألّهین فی الأسفار.(4) وللاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) كلام فی تعلیقته على الأسفار نظیر ما فی المتن قال فی آخره «فقد ظهر ممّا قدّمناه أنّ الواحد والكثیر لا تقابل بینهما من حیث هما واحد وكثیر».


1. راجع: الفصل السادس من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌369؛ و المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌98.

3. راجع: المطارحات: ص‌‌318.

4. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌122ـ126.

وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ التقابل بالذات بین المفاهیم ینحصر فی تقابل الوجود والعدم، وأنّ تقابل المفاهیم الثبوتیّة إنّما هو تقابل بالعرض لاستلزامه التناقض، حتّى أنّ تقابل التضایف لیس تقابلاً بالذات، وكذلك الواحد والكثیر إنّما یتقابلان لاستلزام كلّ منهما نفی الآخر.