المرحلة الثانیة عشر

المرحلة الثانیة عشر

394 ـ قوله «وهی فی الحقیقة مسائل...»

إلى هنا انتهى البحث عن الاُمور العامّة التی تشكّل موضوعاتٍ لمسائل الفلسفة الاُولى بمعناها الخاصّ، ولقسم منها بمعناها العامّ الشامل للإلهیّات. وقد مرّت الإشارة إلى اختلاف الحكماء فی اندراج العلم الإلهیّ ومعرفة الربوبیّة فی الفلسفة الاُولى، فراجع الرقم (4).

وقد حاول سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) توجیه اندراج مسائل هذا العلم فی الفلسفة الاُولى بأنّها فی الحقیقة تتعلّق بمبحث الوجوب والإمكان الذی مرّ ذكره فی المرحلة الرابعة من هذا الكتاب. وإنّما أفردوا هذه المسائل المتعلّقة بالواجب تبارك وتعالى لشرافة موضوعها. ویمكن مثل هذا التوجیه لاندراج هذه المسائل فی مبحث العلّة والمعلول، بالنظر إلى كون الواجب تعالى هو العلّة الاُولى، وله أتمّ معانی العلّیة وأكمل مراتبها.

وظاهر صدر المتألّهین فی الأسفار أنّه اعتبر العلم الإلهیّ علماً مستقلّاً عن الفلسفة الاُولى وعلم ما بعد الطبیعة، حیث قال فی مقدّمة السفر الثالث: «فهذا شروع فی طور آخَر من الحكمة والمعرفة، وهو تجرید النظر إلى ذوات الموجودات وتحقیق وجود المفارقات والإلهیّات، والمسمَّى بمعرفة الربوبیّة والحكمة الإلهیّة ـ إلى أن قال ـ وهو مشتمل على علمین شریفین: أحدهما العلم بالمبدء، وثانیهما العلم بالمعاد».(1)


1. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌3 و 8.

وهناك مناهج اُخرى لتقسیم المباحث العقلیّة وترتیبها. من أشهرها تقدیم المباحث المنطقیّة، وإتباعها بالطبیعیّات، وختمها بالاُمور العامّة والإلهیّات. ومنها ما صنعه بهمنیار فی التحصیل مقتدیاً فی الترتیب بالحكمة العلائیّة لاُستاذه، حیث قسّمه إلى ثلاثة كتب: الكتاب الأوّل فی المنطق، والكتاب الثانی فی الاُمور العامّة أو علم ما بعد الطبیعة، والكتاب الثالث فی العلم بأعیان الموجودات، وجعَله مشتملاً على مقالتین: إحداهما فی البحث عن الواجب تعالى، واُخراهما فی البحث عن أبواب الطبیعیّات، وجعَل الباب الأخیر منها فی البحث عن أحوال النفس ومعادها.

وسلك الشیخ فی الإشارات مسلكاً بدیعاً، فجعَل هذا الكتاب على قسمین: قسم فی المنطق، وقسم فی الحكمة، وجعَل قسم الحكمة على عشرة أنماط: النمط الأوّل فی تجوهر الجسم، الثانی فی الجهات، الثالث فی النفس الأرضیّة والسماویّة، الرابع فی الوجود وعلله بما یشتمل على البحث عن الواجب تعالى ووحدته، الخامس فی الصنع والإبداع، السادس فی الغایات ومبادیها، السابع فی التجرید، الثامن فی البهجة والسعادة، التاسع فی مقامات العارفین، والعاشر فی أسرار الآیات وخوارق العادات.

والحاصل أن كیفیّة تقسیم المباحث العقلیّة وترتیبها لیست أمراً متّفَقاً علیه بین الفلاسفة، ولا ملتزَماً به فی كتب فیلسوف واحد، وقد مرّ ما یتعلّق بذلك تحت الرقم (8 و 25).

الفصل الأوّل

395 ـ قوله «البراهین الدالّة على وجوده...»

قال الشیخ: «الحقّ ما وجوده له من ذاته. فلذلك، البارئ هو الحقّ، وما سواه باطل.

كما أنّ واجب الوجود لا برهان علیه، ولا یعرف إلاّ من ذاته. فهو كما قال: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ».(1)

ویمكن تفسیر هذا الكلام بأنّ مراده هو نفی برهان اللمّ، ویستشهد بكلامه فی الشفاء حیث قال: «ولا برهان علیه لأنّه لا علّة له»(2) ویجمع بین قوله هذا وما أقام من البراهین فی كتبه المختلفة على وجود الواجب تبارك وتعالى كغیره من الفلاسفة بأنّها ترجع إلى براهین إنّیة.(3)

لكن لهذا الكلام تأویل آخر أشدُّ مناسبةً لذیل كلامه، أعنی قوله: «ولا یعرف إلاّ من ذاته» وإن كان بعیداً عن مساق كلمات المشّائین وأتباعهم. وهو أنّ غایة ما تفیده البراهین أنّ فی دار الوجود موجوداً مّا یمتنع عدمه فیقال إنّه واجب الوجود، وهكذا یوصف بالحیاة والعلم والقدرة من الصفات الذاتیّة، كما أنّه یتّصف بالعلّیة والخالقیّة والربوبیّة وغیرها من الصفات الفعلیّة والإضافیّة. وموضوع جمیع هذه الأوصاف هو ما یطلق علیه «شیء» أو «موجود» ونحوها من المفاهیم العامّة، وأمّا حقیقته فغائبة عن إدراكنا ومعرفتنا، كما أنّ صفاته التی ننسبها إلیه إنّما نعرفها بمصادیقها المحدودة فی أنفسنا ثمّ نجرّد المفاهیم عن الحدود العدمیّة تجریداً ذهنیّاً فننسبها إلیه سبحانه. فلا حقیقةُ ذاته معروفةٌ لنا، ولا كُنْهُ صفاته معلوم لعقولنا. وهذا هو معنى ما یقال من عدم قدرة العقل على معرفة كنه ذاته وصفاته، وقد یستدلّ علیه بأنّ العقل إنّما یمكنه اكتناه المهیّات، وحیث إنّه تعالى لا مهیّة له ـ كما مرّ البحث عنه تحت الرقم (62) وسیأتی الكلام فیه أیضاً ـ فلا یستطیع العقل اكتناه ذاته سبحانه.(4)


1. راجع: التعلیقات: ص‌‌70؛ و سورة آل ‌عمران، الآیة 18.

2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء.

3. راجع: تعلیقة الأستاذ1 على الأسفار: ج‌6، ص‌‌29.

4. راجع: المبدء والمعاد: ص‌‌3340.

لكنّ العبارة القائلة «لا یُعرف إلاّ من ذاته» توحی بإمكان معرفته من طریق آخر، كما وردت عن أئمّة أهل البیت(علیهم‌السلام) روایات مستفیضة تدلّ على أنّه تعالى لا یُعرف إلاّ به، وإنّما خَلْقُه یُعرف به لا بالعكس.(1) وعن الإمام الصادق(علیه‌السلام) أنّه قال: «ومن زعم أنّه یعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب ـ إلى أن قال ـ إنّ معرفة عین الشاهد قبل صفته، ومعرفة صفة الغائب قبل عینه».(2) وعن الإمام الباقر(علیه‌السلام): «كلُّ ما میّزتموه بأوهامكم فی أدقّ معانیه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إلیكم».(3) وقد تكرّر هذا المضمون فی أدعیتهم ومناجاتهم كقول سیّد الشهداء(علیه‌السلام) فی دعاء عرفة «ألِغیرك من الظهور ما لیس لك حتّى یكون هو المظهر لك؟!» وقول الإمام السجّاد(علیه‌السلام) فی مناجاته التی رواها أبو حمزة الثمالیّ: «بك عرفتك وأنت دللتنی علیك ودعوتنی إلیك، ولو لا أنت لم أدرِ ما أنت».

والتفسیر الفلسفیّ لهذه المعرفة هو أنّه علم حضوریّ للمعلول بالنسبة إلى علّته المفیضة، وله مراتب أدناها ما هو حاصل لكلّ إنسان حصولاً غیر مشعور به فی هذه النشأة للجمیع، ولعلّه هو ما أشار إلیه عزّ اسمه بقوله: «ألست بربّكم قالوا بلى»(4) خاصّةً بالنظر إلى ما ورد فی تفسیره عن أئمّة أهل البیت(علیهم‌السلام) أنّ هذا الجواب كان عن رؤیة ومُعایَنة.(5) وهو أحد معانی فطریّة معرفته سبحانه.

ولهذا العلم مراتب كاملة تحصل بتكامل النفس وتعالیها عن المادّیات واقترابها من الحضرة الإلهیّة إلى أن تصل إلى «مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِیكٍ مُقْتَدِرٍ»(6) وتخاطَب


1. راجع: الكافی: ج‌1، «باب أنّه تعالى لا یعرف إلاّ به».

2. راجع: تحف العقول: كلامه (علیه‌السلام) فی وصف المحبّة لأهل البیت(علیهم‌السلام).

3. راجع: المحجّة البیضاء: ج‌1، ص‌‌219.

4. سورة الأعراف، الآیه 172.

5. راجع: الكافی: ج‌2، ص‌‌13؛ وراجع: المیزان فی التفسیر القرآن: ج‌8، ص‌‌340 و 345.

6. سورة القمر، الآیة 55.

بقوله عزّ من قائل: «یَا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِی إِلَى رَبِّکِ رَاضِیَةً مَرْضِیَّةً * فَادْخُلِی فِی عِبَادِی‌ * وَادْخُلِی جَنَّتِی‌».(1) وأكمل مراتبه ما یفوز به الأنبیاء الكاملون، والأولیاء المقرّبون، والشهداء والصدّیقون. فطوبىٰ لهم، ثمّ طوبىٰ لهم.

ولْیُعلمْ أنّ تلك المعرفة السامیة مع شموخ مقامها وعلوّ درجتها لا تعنی اكتناهَ ذاته المقدّسة، فإنّه خاصّ به سبحانه قد استأثره لنفسه «ولا یحیطون به علماً»(2) وإنّما لكلٍّ منهم ما تَسَعه مرتبة وجوده الخاصّ، وتتجلّى له الذات الإلهیّة بقدر ما تستعدّ له مرآته الصافیة.(3)

وهذه المعرفة الحضوریّة إنّما یستطیع إثباتَها مَن لا یحصر العلمَ الحضوریَّ فی عِلم الشیء بنفسه، وأمّا المشّاؤون وأتباعهم فلا سبیل لهم إلى إثباتها، ولهذا أشرنا إلى أنّ هذا التفسیر بعید عن مساق كلماتهم، وغیر موافق لمبانیهم. والحمد لله الذی هدانا لهذا وما كنّا لنهتدی لولا أن هدانا اللّه‏.

396 ـ قوله «وأمتنها هو البرهان...»

المعرفة الحصولیّة العقلیّة بالواجب تبارك وتعالى إمّا أن تحصل بانعكاس العلم الحضوریّ فی الذهن كقضیّة بدیهیّة متشكلّة من مفاهیم عامّة، وهی رهن لاشتداد العلم الحضوریّ بحیث تستطیع النفس الالتفاتَ إلیه، وهی المعرفة الفطریّة بمعنى آخر؛ وإمّا أن تحصل من طریق البرهنة والاستدلال، وهی التی تتیسّر لكلّ عاقل، وتُطلب بالأبحاث الفلسفیّة.

والبراهین التی تفید هذا العلم الاكتسابیَّ كثیرة، وأمتنها ما یتشكّل من مقدّمات


1. سورة الفجر، الآیة 27ـ30.

2. سورة طه، الآیة 110.

3. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌113ـ119.

عقلیّة محضة ولا تحتاج إلى مقدّمات حسّیة وتجریبیّة ونحوها، كالبرهان الذی أقامه الشیخ فی الإشارات، وحاصله أنّ الموجود إمّا أن یكون واجباً فهو المطلوب، وإمّا أن یكون ممكناً فیحتاج إلی علّة ترجّح وجوده، والعلّة إما هو الواجب فیثبت المطلوب إمّا أن یكون ممكناً آخر، فلابدّ من انتهاء سلسلة العلل إلى الواجب دفعاً للدور والتسلسل. ثمّ قال: «تأمَّلْ كیف لم یحتج بیاننا لثبوت الأوّل ووحدانیّته وبراءته عن الصمات إلى تأمُّلٍ لغیر نفس الوجود، ولم یحتج إلى اعتبار من خلقه، وإن كان ذلك دلیلاً علیه، لكن هذا الباب أوثق وأشرف، أی إذا اعتبرنا حال الوجود فشهد به الوجود من حیث هو وجود، وهو یشهد بعد ذلك على سائر ما بعده فی الوجود. وإلى مثل هذا اُشیر فی الكتاب الإلهیّ: «سَنُرِیهِمْ آیَاتِنَا فِی الْآفَاقِ وَفِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّى یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(1) أقول: هذا حكم لقوم. ثمّ یقول: «أَوَلَمْ یَکْفِ بِرَبِّکَ أَنَّهُ عَلَى کُلِّ شَیْ‌ءٍ شَهِیدٌ»(2) أقول: هذا حكم للصدّیقین الذین یستشهدون به لا علیه».

و قال المحقّق الطوسىّ فی شرحه: «المتكلّمون یستدلّون بحدوث الأجسام والأعراض على وجود الخالق، وبالنظر إلى أحوال الخلیقة على صفاته واحدةً فواحدة. والحكماء الطبیعیّون أیضاً یستدلّون بوجود الحركة على محرّك، وبامتناع اتّصال المحرّكات لا إلى نهایة على وجود محرّك أوّل غیر متحرّك، ثم یستدلّون من ذلك على وجود مبدء أوّل. وأمّا الإلهیّون فیستدلّون بالنظر فی الوجود وأنّه واجب أو ممكن على إثبات واجب، ثمّ بالنظر فی ما یلزم الوجوب والإمكان على صفاته، ثمّ یستدلّون بصفاته على كیفیّة صدور أفعاله عنه واحداً بعد واحد.

فذكر الشیخ فی ترجیح هذه الطریقة على الطریقة الاُولى أنـّه أوثق وأشرف، وذلك لأنّ أولى البراهین بإعطاء الیقین هو الاستدلال بالعلّة على المعلول، وأمّا


1. سورة فصّلت، الآیة 53.

2. سورة فصّلت، الآیة 53.

عكسه الذی هو الاستدلال بالمعلول على العلّة فربما لا یعطی الیقین، وهو إذا كانت للمطلوب علّة لا یعرف إلاّ بها كما تبیّن فی علم البرهان.

ثمّ جعل المرتبتین المذكورتین فی قوله تعالى « سَنُرِیهِمْ آیَاتِنَا فِی الْآفَاقِ وَفِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّى یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ یَکْفِ بِرَبِّکَ أَنَّهُ عَلَى کُلِّ شَیْ‌ءٍ شَهِیدٌ» أعنی مرتبة الاستدلال بآیات الآفاق والأنفس على وجود الحقّ، ومرتبة الاستشهاد بالحقّ على كلّ شیء بإزاء الطریقتین. ولمّا كانت طریقة قومه أصدق الوجهین وَسَمهم بالصدّیقین، فإنّ الصدّیق هو ملازم الصدق».(1)

ثمّ إنّ صدر المتألّهین بعد ذكر هذا البرهان قال: «وهذا المسلك أقرب المسالك إلى منهج الصدّیقین، ولیس بذلك كما زُعم، لأنّ هناك (یعنی فی منهج الصدّیقین على ما بیّنه وسیأتی ذكره فی المتن) یكون النظر إلى حقیقة الوجود، وههنا یكون النظر فی مفهوم الوجود ـ إلى أن قال ـ فهذا ما وصفه الشیخ فی الإشارات بأنـّه طریقة الصدّیقین وتبعه المتأخّرون فیه» ثمّ تعرّض لبعض ما اُورد فیه من الشبهات وما قیل فی دفعها، وقال فی آخر كلامه «والحقّ كما سبق أنّ الواجب لا برهان علیه بالذات بل بالعرض، وهناك برهان شبیه باللّمّیّ».(2)

وتثور حول هذه الكلمات تساؤلات كما یلی:

ألف) هل هذا البرهان إنّیّ أو لمّیّ؟

ب) ما هی المیزه الأساسیّة الفارقة بین البرهان المنسوب إلى الإلهیّین وسائر البراهین؟ وهل ترجع تلك المیزة إلى الفرق بین اللّمّیّ والإنّیّ؟

ج) ما هو المراد بقولهم «لا برهان على الواجب بالذات بل بالعرض»؟

د) هل فی الآیة الكریمة إشارة إلى الطریقتین أو إلى طریقة ثالثة؟


1. راجع: آخر النمط الرابع من شرح الإشارات.

2. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌26ـ29.

ه‍‌) هل للصدّیقین منهج خاصّ لمعرفة الله سبحانه؟ وهل ینطبق ذلك على شیء من تلك البراهین؟

أمّا السؤال الأوّل فالجواب عنه أنّه یصحّ اعتبار هذا البرهان لمیّاً بناءاً على تعمیم العلّیة المعتبرة فی البرهان اللمیّ للعلاقة الملحوظة بین المفاهیم الفلسفیّة واعتبار الإمكان مثلاً علّةً لحاجة الممكن إلى العلّة،(1) كما مرّ بیانه تحت الرقم (8) وإلاّ فهو برهان إنّی یسلك فیه من أحد اللوازم العقلیّة إلى آخر، كما هو رأی سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) فی جمیع البراهین المذكورة فی الأبحاث الفلسفیّة.

وأمّا السؤال الثانی فالجواب عنه أنّ المیزة التی نؤكّد علیها هی ما أشرنا إلیه من تركّب هذا البرهان من مقدّمات عقلیّة محضة بخلاف البراهین المنسوبة إلى المتكلّمین والطبیعیّین. مضافاً إلى قلّة مقدّماته بالنسبة إلیها، فإنّ تلك البراهین تثبت أوّلاً وجود محرِّك غیر متحرّك ومحدِث غیر حادث، ثمّ تحتاج فی إثبات وجوب ذلك المحرّك والمحدث إلى مثل ما اُخذ فی هذا البرهان من المقدّمات.

ویمكن اعتبار میزة ثالثة للبرهان الإلهیّ هی أنّه لا یتوقّف على قبول وجود الممكن فی الخارج فضلاً عن معرفة صفاته وأحواله، بل یكفی فیه التردید بین كون الموجود الذی لا شكَّ فی وجوده واجباً أو ممكناً، بخلاف سائر البراهین التی تحتاج إلى معرفة صفات المخلوقات من الحدوث والإمكان وغیرهما بعد قبول وجودها فی الخارج. ولعلّه إلى هذا أشار الشیخ حیث قال: «ولم یحتج إلى اعتبار من خلقه».

لكن یمكن من جهة اُخرى إثبات میزة لتلك البراهین بإزاء هذه المیزة، هی كفایتها لإثبات كون الواجب غیر العالَم، بخلاف هذا البرهان الذی إنّما یثبت موجوداً واجباً بالذات، ثمّ یحتاج فی إثبات كونه غیر العالَم إلى بیان صفات الواجب بالذات وعدم انطباقها على صفات العالَم.


1. راجع: النهج التاسع من منطق شرح الإشارات؛ والأسفار: ج‌6، ص‌‌28.

وربما یظهر من شرح المحقّق الطوسیّ أنّ وجه أشرفیّة البرهان الإلهیّ هو كونه استدلالاً من العلّة على المعلول. ویلاحظ علیه بعد تأویل العلّة إلى ما أشرنا إلیه آنفاً أنّ برهان الحركة والحدوث لیسا من قبیل الاستدلال بالمعلول علی العلّة، بل هما من قبیل البرهان الإنّی المفید للیقین، ولیس للبرهان اللمیّ فضل علیه، بل یمكن أن یقال بأنّ جمیع البراهین اللمّیة تنطوی على برهان إنّی یتضمّن قاعدة عدم انفكاك المعلول عن علّته التامّة ككبرى له، فتأمّل.

وأمّا السؤال الثالث فقد اُجیب عنه بوجوه(1) أحسنها أنّ جمیع البراهین إنّما تُثبت أنّ هناك موجوداً یمتنع عدمه، فالذی یثبت بها أصالةً وبالذات هو هذا العنوان، وأمّا مصداقه العینیّ فإنّما یعلم بها بالعرض. وأمّا قول صدر المتألّهین أنّ هناك برهاناً شبیهاً باللمیّ فقد فسّره الاستاذ(قدس‌سره) بأنّ البرهان الإنّی المطلق الذی یسلك فیه من أحد اللوازم إلى آخَر شبیهٌ بالبرهان اللمیّ فی كونه مفیداً للیقین، وقد فسّره غیره بغیره.(2) ویحتمل أن یكون مراده أنّ برهان الصدّیقین حسب ما ذكر له من التقریر یفضل على سائر البراهین بأنـّه شبیه بالبرهان اللمیّ،(3) فلیتأمّل.

وأمّا السؤال الرابع فالجواب عنه أنّ الآیة الكریمة بصرف النظر عن ما قیل أو یمكن أن یقال فی تفسیرها من الوجوه لا تدلّ على طریقتین للاستدلال، وإذا كانت لذیلها إشارة إلى نوع آخَرَ من معرفته سبحانه فلتكن هی المعرفة الشهودیّة، خاصّةً بالنظر إلى تفسیر لفظة «شهید» فی الآیة ب‍ «مشهود».

وأمّا السؤال الخامس فالجواب عنه أنّا لم نظفر بدلیل على أنّ للصدّیقین منهجاً خاصّاً لمعرفة الله تعالى، وإنّما نَسب الشیخ برهانَ الإلهیّین إلیهم لما كان یرى أنّه


1. راجع: نفس المصدر: ج‌6، ذیل الصفحة 29.

2. نفس المصدر.

3. راجع: تعلیقة الاُستاذ(قدس‌سره) على الأسفار: ج‌6، ص‌‌13؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص‌‌46.

أوثق وأشرف البراهین، ثمّ أقام صدر المتألّهین برهاناً آخر ورأى أنّه أشرف، فنسب برهانه إلى الصدّیقین. وإذا كانت میزة معرفتهم أنّهم یعرفون الله به لا بغیره انطبقت تلك المعرفة على المعرفة الشهودیّة التی أشرنا إلیها فی التعلیقة السابقة، وهی لیست ممّا یؤدّی إلیه أیُّ برهان، بل هو فضل الله یؤتیه من یشاء. وأمّا الاستعداد للفوز بها فیحصل من الإخلاص فی العبادة وتركیز توجّه القلب إلى ساحة قدسه سبحانه، والإعراض عمّا سواه «إِلَهِی‏ هَبْ‏ لِی‏ كَمَالَ‏ الِانْقِطَاعِ إِلَیْكَ وَ أَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِیَاءِ نَظَرِهَا إِلَیْكَ».

397 ـ قوله «وأوجز ما قیل...»

لكن یجب تتمیمه ببیان الاستلزام، فإن كان المتمّم هو ما تمسّك به الشیخ من استحالة الدور والتسلسل رجع إلى البرهان الذی نسبه إلى الإلهیّین والصدّیقین، وقد مرّ تقریره آنفاً، وسیأتی بیانه فی المتن فی الفصل التالی، وقد قرّره فی شرح المنظومة(1) بوجهین آخرین: أحدهما على سبیل الخلف (بأخذ لفظة «إمّا» بمعنى التردید فی الفرض) بأن یقال: حقیقة الوجود الصِرفة واحدة لا تتثنّى، فإن كانت واجبة فهو المطلوب، وإن فُرضتْ ممكنةً لزم كونها متعلّقة بالغیر، فیلزم أن یكون وراء هذه الحقیقة الصرفة حقیقة اُخرى تتعلّق هذه الحقیقة بها، مع أنّ الصِرف لا یتثنىّ. وثانیهما على سبیل الاستقامة (بأخذ لفظة «إمّا» بمعنى التقسیم) بأن یقال: الوجود حقیقة ذات مراتب، فإن انتهت المراتب إلى الواجب فهو المطلوب، وإلاّ لزم الدور أو التسلسل. ثمّ وصف الوجه الأوّل بأنـّه أوثق وأشرف وأخصر.

ویلاحظ على الوجه الأوّل أنّ ما ثبت بالأبحاث الفلسفیّة هو أصالة الوجود وكونه ذا مراتب، وأمّا أنّ هناك حقیقةً صرفةً لا تخالطها مهیّةٌ ولیس لها حد


1. راجع: شرح المنظومة: الفریدة الأولى من الإلهیّات.

عدمیٌّ وأنّها غیر قابلة للتكرّر والتكثّر فلیست ببیّنة ولا مبیَّنة فی البرهان. وربما یقال فی تبیین ذلك: إنّ الوجود إمّا أن یكون صِرفاً خالصاً من شوب عدم ومهیّة فهو المطلوب، وإمّا أن یُفرض مختلطاً بالعدم، محدوداً بحدود تنتزع عنها المهیّة فیلزم اختلاط الوجود بغیر الوجود فی حاقّ الأعیان، وهو باطل على القول بأصالة الوجود.

ویلاحظ علیه أن صرافة حقیقة الوجود بمعنى عدم شوبها فی متن الواقع بالعدم لا ینفی كثرة المراتب، فإنّ كلّ مرتبة منه وإن كانت فی غایة الضعف لیس فی متن الواقع إلاّ وجوداً، وإنّما ینتزع الذهن منها مفاهیم عدمیّة، ولا یعنی ذلك تحقّق العدم فی حاقّ الأعیان واختلاطه بحقیقة الوجود. وقد عرفت تصریح الاستاذ(قدس‌سره) فی الفصل الثانی من المرحلة الاُولى بأنّ تكثّر الوجود أمر بدیهیّ، وقد أخذه مقدّمة اُولى لإثبات التشكیك فی حقیقة الوجود. وأمّا الصرافة بمعنى اللاتناهی المطلق وعدم المحدودیّة بحدود ماهویّة وكونه بحیث لا ینتزع الذهن مفاهیم عدمیّة وما هویّة عنه فهو یختصّ بوجود الواجب تبارك وتعالى، وهو الذی یُطلب بهذا البرهان. والحاصل أنّ التقریر الخلفیّ لا یتمّ إلاّ على قول الصوفیّة،(1) ویؤول إلى المصادرة بالمطلوب.

وأمّا السبیل المستقیم فیمكن تقریره بوجه لا یتوقّف على سبق إبطال التسلسل، وهو أن یقال: الوجود حقیقة ذات مراتب، والمراتب النازلة هی مفتقرة الذات وعین التعلّق والفقر الوجودیّ بما وراءها، فتستلزم مرتبة مستقلّة على الإطلاق، وإلاّ عاد المفتقر غنیّاً، والرابط مستقلّاً. وهذا هو نفس البرهان الذی اُقیم على استحالة التسلسل فی العلل الفاعلیّة ـ على ما مرّ بیانه فی الفصل الخامس من المرحلة الثامنة ـ لا أنّه مبتنٍ علیها، فتبصّر.


1. راجع: تمهید القواعد: ص‌‌59.

398 ـ قوله «وفی معناه ما قرّر...»

هذا التقریر للمحقّق السبزواریّ فی تعلیقته على الأسفار،(1) وهو نظیر السبیل الخلفیّ الذی نقلنا عنه آنفاً فی تفسیر التقریر السابق، بتبدیل الصرافة بالإرسال، وقد فسّر الإرسال بالصرافة والبساطة فی جواب الإشكال. وقد عرفت ما فیه من المناقشة. والحاصل أنّه إن اُرید بالحقیقة المرسلة التی هی أصیلة ولا أصیل غیرها انحصار الوجود الحقیقیّ فی الواجب تعالى فهو قول الصوفیّة، ویرد علیه مضافاً إلى منافاته للكثرة الثابتة بالضرورة أنّه مصادرة بالمطلوب، فإنّ المطلوب بالبرهان إثبات وجود صرف غیر قابل للعدم بوجه، وقد اُخذ ثابتاً مفروغاً عنه. وإن اُرید بها ما یعمّ الوجودات الإمكانیّة فالمناقض لكلّ واحد منها هو العدم الخاصّ لا مطلق العدم، ولا یثبت بمناقضة العدم للوجود وجود حقیقة واجبة غیر متّصفة بأیّ مفهوم عدمیّ یحكی عن محدودیّتها.

399 ـ قوله «وقرّر صدر المتألّهین...»

هذا التقریر یبتنی على اُصول: أحدها أصالة الوجود، وثانیها كونه ذا مراتب، وثالثها كون المعلول مفتقر الذات إلى العلّة وعینَ الربط بها، وقد مرّ إثبات كلّ واحد منها فی محلّه. فبالنظر إلى هذه الاُصول یقرّر البرهان على هذا النمط: الوجود الأصیل إن كان مستغنیاً عن غیره فهو المطلوب، وإن كان غیرَ مستغنٍ بالذات كان معلولاً مفتقراً إلى ما هو مستغنٍ بالذات، لاستحالة تحقّق المفتقر المتعلّق الذی هو عین التعلّق والربط بلا مستقلّ غنیّ تامّ. وقد أشار فی ضمن كلامه إلى قواعد حكمیّة اُخرى لمزید التوضیح والتأكید.(2)


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ذیل الصفحة 16 و 17.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌6، ص‌‌14ـ16.

وهذا التقریر هو الذی أشرنا إلیه آنفاً فی توضیح التقریر الأوّل على السبیل المستقیم. وله مزیّة على برهان الشیخ هی عدم احتیاجه إلى سبق إبطال التسلسل، بل هو بنفسه برهان علیه. كما أنّه ناظر إلى حقیقة الوجود العینیّة. بخلاف برهان الشیخ، حیث إنّ المأخوذ فیه هو عنوان الموجود القابل للانطباق على المهیّة، كما أنّ عنوان الممكن المأخوذ فیه هو وصف للمهیّة، فلا یناسب القول بأصالة الوجود. وإلى هذا الوجه أشار حیث قال «وههنا ـ یعنی فی برهان الشیخ ـ یكون النظر فی مفهوم الوجود».(1)

ثمّ قال بعد تقریر البرهان: «واعلم أنّ هذه الحجّة فی غایة المتانة والقوّة، یقرب مأخذها من مأخذ طریقة الإشراقیّین التی تبتنی على قاعدة النور».(2) وهذه الطریقة هی التی بیّنها شیخ الإشراق بقوله «النور المجرّد إذا كان فاقراً فی مهیّته فاحتیاجه لا یكون إلى الجوهر الغاسق المیّت، إذ لا یصلح هو لأن یوجِد أشرفَ وأتمَّ منه لا فی جهة، وأنّى یفید الغاسق النور؟ فإن كان النور المجرّد فاقراً فی تحقّقه فإلى نور قائم. ثمّ لا تذهب الأنوار القائمة المترتّبة سلسلتها إلى غیر النهایة، لما عرفت من البرهان الموجب للنهایة فی المترتّبات المجتمعة، فیجب أن تنتهی الأنوار القائمة والعارضة والبرازخ وهیآتها إلى نور لیس وراءه نور، وهو نور الأنوار».(3)

وقال صدر المتألّهین: «والحاصل أنّ صاحب الإشراقیّین لو كان قصَد بمهیّة النور الذی هو عنده بسیط متفاوت بالكمال والنقص حقیقةَ الوجود بعینها صحّ ما ذهب إلیه، وإن أراد به مفهوماً من المفهومات التی من شأنها الكلّیة والاشتراك بین الكثیرین فلا یمكن تصحیحه».(4)


1. نفس المصدر: ص‌‌26ـ27.

2. نفس المصدر: ص‌‌16ـ17.

3. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌121.

4. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌23.

ثمّ إنّه بناءاً على تطبیق النور على حقیقة الوجود یبقی فرق بارز بین البرهانین، وهو احتیاج البرهان الإشراقیّ إلى إبطال التسلسل، دون برهان صدر المتألّهین. ولعلّه لأجل ذلك جعل برهانه قریب المأخذ من ذلك. وهناك وجه آخر للفرق أشار إلیه المحقّق السبزواریّ فی تعلیقته على الأسفار، وهو أنّ قاعدة النور لا تشمل الأجسام والأعراض التی هی عندهم غواسق، بخلاف نور الوجود.(1)

ولْیُعلمْ أنّ برهان صدر المتألّهین یشترك مع برهان الشیخ فی أنّهما إنّما یُثبتان وجود حقیقة واجبة الوجود، ویحتاجان فی إثبات أنّه غیر العالَم إلى بیان آخر، كإثبات بساطة وجود الواجب وصرافته ولا تناهیه على الإطلاق، ممّا لا یوجد فی العالم المادّیّ ولا فی ماوراءه من المجرّدات الفاقرة الذوات. وقد أشار صدر المتألّهین فی ضمن بیانه إلى أنّ الوجود المستغنی بسیط صرف، لكنّ الاُصول السالفة لا تفی بإثباته، فیبقی إثبات ذلك رهنَ ما یأتی من البرهان فی الفصل الرابع. وقد مرّ ما یفید لهذا الباب فی خامس الاُمور التی ذكرناها تحت الرقم (231).

الفصل الثانی

400 ـ قوله «من البراهین علیه...»

هذا هو نفس البرهان الذی نسبه الشیخ إلى الصدّیقین. وهناك برهان آخر یثبت فیه إمكان العالَم بما یشتمل علیه من المادّیات والمجرّدات من طریق ثبوت المهیّة لها وملازمتها الإمكان أو من طریق آخر،(2) ثمّ ینضمّ إلیه احتیاج الممكن إلى العلّة ولزوم انتهاء سلسلة العلل إلى الواجب بالذات المستغنی عن العلّة. وللأوّل فضل


1. راجع: نفس المصدر: ذیل الصفحة 17.

2. راجع: المطارحات: ص‌‌388؛ والمباحث المشرقیة: ج‌2، ص‌‌450.

علیه من جهة عدم احتیاجه إلى معرفة صفات الخلق، وله فضل على الأوّل من جهة عدم احتیاجه إلى إثبات كون الواجب وراء العالَم.

وقد أقام شیخ الإشراق حجّة اُخرى مبنیّة على إثبات إمكان العالم من طریق احتیاجه إلى اجزائه(1) وناقش فیها صدر المتألّهین.(2)

ثمّ إنّ هناك برهاناً ربما یسمّى «برهان الإمكان» أقامه الفارابیّ وقرّره صدر المتألّهین،(3) ولا یحتاج إلى سبق إبطال التسلسل. وحاصله أنّ الممكن سواء كان واحداً أو متعدّداً، مترتباً أو متكافئاً، لا یقتضی وجوب الوجود، فلابدّ فی وجود الممكن المترتّب على وجوبه من موجود واجب بالذات.

ولعلّ صدر المتألّهین استلهمَ برهانه من هذا البرهان بتبدیل الإمكان الماهویّ بالفقر الوجودیّ.

401 ـ قوله «أقامه الطبیعیّون من طریق الحركة»

برهان الحركة یبتنی على أربع مقدّمات، هی احتیاج المتحرّك إلى المحرّك، ولزوم انتهاء المحرّك إلی ما لیس بمتحرّك، وتجرّد ما لیس بقابل للحركة، ولزوم انتهاء سلسلة المجرّدات إلى الواجب بالذات.(4) والمقدّمة الأخیرة هی التی تتبیّن بالمقدّمات المأخوذة فی سائر البراهین، كما أشرنا إلیه سابقاً.

وقال صدر المتألّهین بعد تقریره: «وكمال هذه الطریقة بما حقّقناه وأحكمناه من إثبات الحركة الجوهریّة فی جمیع الطبائع الجسمانیّة».(5)


1. راجع: المطارحات: ص‌‌386ـ387.

2. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌30ـ36.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌36ـ37.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌388ـ389؛ والأسفار: ج‌6، ص‌‌4244؛ والمبدء والمعاد: ص‌‌17ـ18.

5. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌44.

إن قلت: المقدّمة الثانیة تنافی ما ذكروا من لزوم كون علّة الحركة متحرّكة، وهو الذی تبنّاه صدر المتألّهین فی أحد البراهین التی أقامها على الحركة الجوهریّة.

قلت: المحرّك الذی یجب أن یكون متحرّكاً هو المحرّك الطبیعیّ أی السبب المباشر لتغیّر الأجسام فی أعراضها، وأمّا الذی یجب انتهاء سلسلة المحرّكات إلیه فهو المحرّك الإلهیّ أی موجد الحركة والمتحرّك، فلا تهافت بین القاعدتین. وربما یفسّر المحرّك الإلهیّ بالعلّة الغائیّة لحركات الأجسام، بناءاً على كون حركات الأفلاك معلولة لشوق نفوسها إلى التشبّه بالمفارقات، وكون الواجب تعالى غایة قصوى لجمیع الموجودات، فتأمّل.

402 ـ قوله «من طریق النفس الإنسانیّة»

هذا البرهان یبتنی على خمس مقدّمات هی: تجرّد النفس، وحدوثها، وإمكانها، واحتیاجها إلى سبب غیر جسمانیّ، ولزوم انتهاء سلسلة الأسباب المجرّدة إلى الواجب بالذات. والمقدّمة الثانیّة تتبیّن ببرهان یبتنی على امتناع تمایز النفوس قبل الأبدان وامتناع تناسخها بعدها، والمقدّمة الثالثة متفرّعة علیه. وأمّا المقدّمة الأخیرة فیحتاج إثباتها إلى المقدّمات المأخوذة فی سائر البراهین كما فی البرهان السابق. ومع ذلك فقد وصفه صدر المتألّهین بأنـّه شریف جدّاً.(1)

403 ـ قوله «برهان آخر للمتكلّمین...»

هذا البرهان یبتنی على أربع مقدّمات مترتّبة هی قابلیّة الأجسام للتغیّر، وحدوثها، واحتیاجها إلى علّة غیر جسمانیّة، وبطلان الدور والتسلسل. والمتكلّمون یرون أنّ تغیّر الأعراض كافٍ فی اثبات حدوث الجواهر الجسمانیّة، وأنّ الحدوث یكفی فی


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌4447؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص‌‌18ـ21؛ والمطارحات: ص‌‌402403.

إثبات احتیاجها إلى العلّة، وأنّ القدم الزمانیّ والتجرّد ینحصران فی الواجب تعالى فیتوسّلون لإثبات انتهاء الأسباب إلى سبب قدیم ومجرّد بإبطال الدور والتسلسل. لكن استلزام تغیّر الأعراض لحدوث الأجسام غیر بیّن ولا مبیّن كما نبّه علیه الاُستاذ(قدس‌سره) إلاّ على القول بالحركة الجوهریّة، والحدوث إنّما هو أمارة على الإمكان الذی هو ملاك الحاجة. فینبغی أخذ ذلك مقدّمة اُخرى. والتجرّد كالقدم الزمانیّ لا یلازم وجوب الوجود، فلتؤخذ المقدّمة الأخیرة لإثبات لزوم انتهاء العلل إلی الواجب بالذات، كما مرّ نظیره فی البرهانین الأخیرین.

الفصل الثالث

404 ـ قوله «فی أنّ الواجب لذاته لا مهیّة له»

قد مرّ البحث عنه فی الفصل الثالث من المرحلة الرابعة، وقد أشرنا هناك إلى بعض ما یترتّب علیه من النتائج تحت الرقم (62) وسوف تلاحظ الاستفادة منه فی الفصل التالی لإثبات بساطة وجود الواجب تعالى.

ومجموع ما استدلّ به فی هذا الكتاب لإثبات المسألة أربعة براهین: الأوّل ما أشار إلیه فی كلا الموضعین من تساوق المهیّة مع الإمكان ممّا قد ثبت فی الفصل الأوّل من تلك المرحلة فینتج أن لا مهیّة لغیر الممكن. والبرهان الثانی أیضاً قد مرّ ذكره تفصیلاً، وإنّما أعاده ههنا تمهیداً لذكر إشكال لم یذكر هناك ودفعه. والبرهان الثالث مذكور هناك فقط، وخصّ البرهان الرابع بالذكر ههنا.

405 ـ قوله «ونقضها بالمهیّة ـ إلى قوله ـ غیر مستقیم»

هذا هو الإشكال الذی أشرنا إلیه آنفاً، وحاصله أنّه قد ذُكر فی هذا البرهان أنّه لا

یجـوز كون المهیّة المفروضـة للواجب علّةً لوجودها لاستلزامه تقدّمها ـ وهی علّة فاعلة ـ على الوجود المعلول. فیرد علیه النقض بتقدّم القابل فی المهیّة الممكنة، حیث إنّها تقبل الوجود من الفاعل فیلزم تقدّمها حتّى تصحّ نسبة القبول إلیها. فكما أنّ تقدُّم القابل هناك غیرُ ضارٍّ فلیكن تقدُّم الفاعل ههنا كذلك.

وحاصل الجواب أنّ القابل على قسمین: قابل حقیقیّ هو علّة مادّیة للمجموع منه ومن الصورة التی یقبلها، وهو متقدّم بالطبع لكونه جزء العلّة؛ وقابل اعتباریّ یختصّ قبوله بوعاء التحلیل الذهنیّ حیث ینحلّ الموجود إلى مهیّة ووجود. وهذا القبول الاعتباریّ لا یعنی إلاّ وقوع المهیّة موضوعاً للقضیّة المترتّبة على ذلك التحلیل، فلا یستلزم تقدّماً حقیقیّاً لها على الوجود. وأمّا فرض فاعلیّة المهیّة للوجود العینیّ فمعناه تأثیرها الحقیقیّ فیه ویستلزم تقدّمَها بالوجود. فالوجود الذی هو ما فیه التقدّم لو كان نفس الوجود الذی فُرض معلولاً لزم تقدّم الوجود على نفسه، ولو كان وجوداً آخر نُقل الكلام إلیه، وهلّم جرّاً.

واعلم أنّ هذا الإشكال هو للإمام الرازیّ،(1) وزعم صدر المتألّهین وروده فقال «هذه الحجّة غیر تامّة عندنا لأنّها منقوضة بالمهیّة الموجودة...»(2) لكن دفعه سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) وأعلن أنّها حجّة تامّة لاغبار علیها.

406 ـ قوله «حجّة اُخرى»

هذه الحجّة هی التی أقامها شیخ الإشراق،(3) وحاصلها أنّه لو كان للواجب مهیّة لكانت داخلة إمّا فی مقولة الجوهر وإمّا فی إحدى المقولات العَرَضیّة، لانحصار


1. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌37؛ وراجع: التلویحات: ص‌‌34؛ وراجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌98.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌6، ص‌‌48.

3. راجع: المطارحات: ص‌‌391ـ392؛ وراجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌106ـ108؛ وج6: ص‌‌5657.

المهیّات فیها. فلو كانت من مقولة الجوهر كان الجوهر جنساً لها، فاحتاج إلى فصل یقوّمه، والاحتیاج أمارة الإمكان. ومن طریق آخر: لا شكَّ فی احتیاج بعض أنواع الجوهر إلى الفصل، والنوع یشترك مع الجنس فی ما یجوز وما لا یجوز، فما جاز لنوع جاز لجنسه، وكذا ما یمتنع علیه أو یجب له. فجنس الجوهر یتّصف بالصفة الإمكانیّة لاتّصاف بعض أنواعه بها. فلا یجوز أن تكون المهیّة المفروضة للواجب داخلة تحت مقولة الجوهر، وبطریق أولى لا یجوز دخولها تحت المقولات العَرضیّة، لكون الحاجة فیها أبینَ، فینتج أن لا مهیّة له سبحانه.

ویمكن المناقشة فی هذه الحجّة بأنّ حصْر جمیع المهیّات فی المقولات ممنوع، وقد صرّح صدر المتألّهین(1) بأنّ الاندراج فی المقولات یختصّ بالمهیّات المركّبة من الأجناس والفصول، فلا مانع عقلاً من فرض مهیّة بسیطة غیر مركّبة من الجنس والفصل ولا داخلة فی شیء من المقولات. مضافاً إلى ما مرّ من أنّ الجوهر والعرض لیسا مفهومین جنسیّین، بل هما من المعقولات الثانیة، كما اختار شیخ الإشراق نفسُه فی بعض كتبه،(2) فراجع الرقم (111).

407 ـ قوله «وقد تبیّن ممّا تقدّم...»

قد مرّ بیان أقسام الضرورة فی الفصل الأوّل والفصل الثالث من المرحلة الرابعة. والضرورة الأزلیّة مأخوذة من مادّة قضیّة لا یشترط ثبوت المحمول لموضوعها بشیء حتّى وجود الموضوع الذی یشترط فی الضروریّة الذاتیّة. فإنّ هذا الشرط إنّما یتصوّر فی ما كان الموضوع ذا مهیّة لكن فرضها معدوم، كما أنّ بقاء الوصف إنّما یشترط فی ما یمكن زوال الوصف عنه.


1. نفس المصدر: ج‌4، ص‌‌6.

2. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌61 و 71.

الفصل الرابع

408 ـ قوله «فی أنّ الواجب تعالى بسیط...»

بعد الفراغ عن البحث عن وجود الواجب تبارك وتعالى تجیء النوبة إلى البحث عن بساطته ووحدته ونفی أیّ كثرة عنه سبحانه. فإنّ الكثرة قد تفرض مع الوحدة، وهی الكثرة فی ذات الشیء ولازمها التركّب، وقد تفرض دون الوحدة ولازمها تعدّد الذات، وسیأتی البحث عنها فی الفصل التالی.

ثمّ الكثرة الداخلیّة والتركّب فی الذات قد تتصوّر من أجزاء موجودة بالقوّة، وهی الأجزاء المقداریّة ولازمها الجسمیّة، أو من أجزاء موجودة بالفعل، وتلك الأجزاء قد تعتبر فی الوجود الخارجیّ وهی عندهم عبارة عن المادّة والصورة الخارجیّتین، وتختصّ أیضاً بالأجسام. وقد تعتبر فی المهیّة الذهنیّة وهی الأجناس والفصول إذا اُخذت لا بشرط، والموادّ والصور العقلیّة إذا اُخذت بشرط لا. وقد مرّ فی المرحلة الخامسة أنّ الأجناس والفصول عندهم مأخوذة من الموادّ والصور الخارجیّة إذا كان هناك تركیب خارجیّ، وكان صدر المتألّهین ممّن یصرّ على أخذ الجنس من الهیولى الاُولى، وإن كان ذلك قابلاً للمناقشة. وإذا لم یكن الموجود الخارجیّ مركّباً من المادّة والصورة اعتبر العقل له جنساً وفصلاً إذا كان له مشارك فی معنىً ماهویّ، وهو التركیب العقلیّ كما فی الأعراض والمجرّدات. وأمّا إذا فرضنا موجوداً له مهیّة بسیطة غیر مشاركة لمهیّة اُخرى فی معنىً ذاتیّ لم یتصوّر له تركیب ماهویّ فی الذهن أیضاً، لكن للعقل أن یحلّل ذلك الموجود إلى مهیّة ووجود إذا كان ممكن الوجود، ولهذا قالوا: «كلّ ممكن زوج تركیبی» فالبساطة الحقیقیّة التامّة إنّما تختصّ بموجود لا مهیّة له مطلقاً، ویعبّر عنها بالصرافة، ولازمها اللاتناهی المطلق.

409 ـ قوله «فلیس له حدّ»

هذا البرهان یهدف إلى نفی الأجزاء بالفعل عن الواجب تعالى،(1) سواء فُرضت الأجزاء خارجیّة أو ذهنیّة. ویبتنی على ما مرّ فی الفصل السابق من نفی المهیّة عنه سبحانه. وتقریره أنّ الأجزاء الذهنیّة وهی الأجناس والفصول هی التی تشكّل الحدّ، والحدّ یختصّ بالمهیّة ـ وإن لم یكن العكس ثابتاً لصحّة فرض مهیّة بسیطة غیر مركّبة من جنس وفصل ـ فإذا لم تكن لموجود مّا مهیّةٌ لم تكن له حدّ، فلم تكن له أجزاء ذهنیّة من الأجناس والفصول. ثمّ بالنظر إلى أنّ الموجود الخارجیّ إذا كان مركّباً من مادّة وصورة كان له جنس وفصل لا محالة ـ وإن لم یكن عكسه صادقاً لثبوت الجنس والفصل لبعض البسائط الخارجیّة أیضاً كالأعراض والمجرّدات ـ وقد ثبت أنّ ما لا مهیّة له فلا جنس له ولا فصل، فینتج أنّ ما لا مهیّة له لا جزء خارجیّاً له، فلیس مركّباً من المادّة والصورة الخارجیّتین، كما أنّه لا یكون مركّباً من مادّة وصورة عقلیّتین أیضاً لأنّهما الجنس والفصل مأخوذین بشرط لا.

410 ـ قوله «لو كان له جزء...»

هذا البرهان(2) أیضاً ینفی الأجزاء الفعلیّة من طریق أنّ للأجزاء تقدُّماً بالطبع على الكلّ، فیحتاج الكلّ إلیها ویتوقّف علیها ویتأخّر عنها، وكلّ هذه أمارات الإمكان.

411 ـ قوله «لو تركّبت ذات الواجب...»

هذا البرهان(3) كسابقیه یرمی إلى نفی الأجزاء بالفعل، وتقریره أنّ الأجزاء المفروضة


1. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌103؛ وراجع: النجاة: ص‌‌227ـ228.

2. راجع: المباحث المشرقیة: ج2، ص456؛ و لأسفار: ج6، ص100؛ والمبدء والمعاد: ص41.

3. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌102ـ103؛ والمبدء والمعاد: ص‌‌4142.

إمّا أن تكون كلّها واجبة الوجود وإمّا أن یكون بعضها أو كلّها ممكن الوجود، والفرض الأوّل یَبطل بعدم حصول التلاحم بین الواجبین المفروضین، لكون النسبة بینهما إمكاناً بالقیاس، ممّا یكشف عن عدم تلازم بینهما مطلقاً، مع أنّ الأجزاء یجب أن تتلاحم وتتلازم فی الكلّ، وإلاّ كانت اُموراً كثیرة مستقلّة لا واحداً مركّبا من الأجزاء. فیرجع الفرض إلى تعدّد الواجب لا تركّبه، وسیأتی الكلام فیه، والفرض الثانی یستلزم توقّف الواجب على الممكن وهو محال، ویستلزم أیضاً دخول المهیّة فی حقیقة الواجب، وقد مرّ بطلانه فی الفصل السابق. مضافاً إلى أنّه یُنقل الكلام حینئذ إلى الممكن الذی یشكّل جزءاً للواجب ویتساءل: هل هو معلول للواجب المتشكّل منه ومن غیره، أو معلول لغیر هذا الواجب، ولا ثالث لهما، لاحتیاج الممكن أیّاً ما كان إلى علّة. فلو فرض معلولاً لهذا الواجب استلزم تقدُّم الشیء على نفسه بمرتبتین، ولو فرض معلولاً لواجب آخر بالمباشرة أو بالتوسیط استلزم كون الواجب معلولاً لغیره، وهو مناقض لوجوب وجوده.

412 ـ قوله «لو كان للواجب جزء مقداریّ...»

هذا البرهان هو الذی اُقیم على نفی الأجزاء بالقوّة ـ وهی الأجزاء المقداریّة ـ عن الواجب تعالى.(1) وحاصله أن معنى كون موجود ذا أجزاء مقداریّة هو إمكان انقسامه إلى أجزاء بالفعل ولو فی نظر العقل، فتلك الأجزاء إمّا أن تكون على فرض تحقّقها بالفعل ممكنةً وإمّا أن تكون واجبة، وعلى الأوّل یلزم كون الأجزاء المقداریّة مغایرة الحقیقة للكلّ، وهو محال، وعلى الثانییلزم كون الأجزاء الواجبةموجودة بالقوّة، والوجود بالقوّة ینافیوجوبوجودها. ویرد على الفرضینجمیعاً أنّهما یستلزمان إمكان زوال الواجب بانقسامه إلى الأجزاء، وهو یناقض وجوب وجوده. فلیُجعل هذا برهاناً آخر.


1. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌101.

413 ـ قوله «ثمّ إنّ من التركّب...»

وههنا یعالج مسألة البساطة بمعناها الأدقّ، وهو كون الوجود بحیث لا ینتزع عنه مفهوم عدمیّ یحكی عن أی قصور ونقص ومحدودیّة فیه. ویمكن إثبات ذلك بالنظر إلى أنّ المهیةّ إنّما تحكی عن حدود الوجود، فكلّ ذی مهیّة فهو ناقص محدود الوجود من جهة من الجهات، فنفی المهیّة عن الواجب یُنتج نفی أیّ حدّ ونقص عنه، فیثبت صرافة وجوده ولا تناهیه المطلق. وقوله «من السلوب» بیان للموصول فی قوله «ما یتّصف والمراد أنّ من المركّب ما یحصل من تشافع الجهات الوجودیّة والعدمیّة، لا من خصوص الأعدام والسلوب. فاتّصاف موجود بوصف سلبیّ ـ إذا كان راجعاً إلى سلب الكمال ـ هو نوع من التركّب، ویحصل بتحلیل العقل ذلك الموجودَ الناقص إلى حیثیّة وجودیّة واُخرى عدمیّة.

414 ـ قوله «بیان ذلك...»

هذا البیان یهدف إلى إثبات أنّ كلّ هوّیة یُسلب عنها كمال وجودیّ فهو مركّب نوعاً من التركیب الدقیق العقلیّ، ثمّ یستنتج منه أنّ كلّ ما هو بسیط الحقیقة فلا یسلب عنه شیء من الكمالات الوجودیّة. فإذا ثبتت بساطة وجود الواجب تعالى على الإطلاق عن طریق نفی المهیّة عنه كما أشرنا إلیه آنفاً یجعل ذلك صغرى لتلك الكبرى الكلّیة، ویستنتج أنّ الواجب لا یكون فاقداً لأیّ كمال وجودیّ.

لكنّ الاُستاذ(قدس‌سره) عمد إلى إثبات كلّ الكمالات له من طریق أنّ كلّ كمال وجودیّ للممكنات فهو فائض عن عللها، وتنتهی سلسلة العلل إلى الواجب بالذات، فهو واجد لجمیع كمالاتها على وجه أشرف وأعلى، لاستحالة كون معطی الشیء فاقداً له، ثمّ استنتج أنّه بسیط الحقیقة.

لكن غایة ما یثبت بهذا البیان أنّ له تعالى كلَّ الكمالات الحاصلة للممكنات على

وجه أتمّ وأعلى، لا أنّ له كلّ كمال مفروض. وبعبارة اُخرى لا ینافی هذا البرهان فقدَ الواجب لكمال لم تحصل ولن تحصل مرتبة منه للممكنات أیضاً، فتأمّل.

415 ـ قوله «فإن قیل: لازم ما تقدّم...»

هذا الإشكال إنّما نشأ من قولهم «بسیط الحقیقة كلّ الأشیاء وتمام الأشیاء»(1) فتُوُهّم أنّ لازمه جواز حمله على كلّ الأشیاء وبالعكس، لكن قد ظهر من البیان السابق أنّ معنى ذلك الكلام هو أنّ له كمالاتِ الأشیاء على وجه أتمَّ مما هو موجود فی الأشیاء، ولا یجوز حمل شیء من الأشیاء ولا مجموعها على الله تعالى ولا بالعكس، أمّا مهیّات الأشیاء فواضح، لعدم تطرّق المهیّة والمعانی الماهویّة إلى ذاته سبحانه، وأمّا وجوداتها الخاصّة فلو وقع حمل بینها وبین الواجب لاستلزم اتّحاد الواجب بجهاتها العدمیّة أیضاً. فالحمل فی ذلك العنوان لیس ممّا یتعارف فی المحاورات، بل هو من قبیل حمل الحقیقة والرقیقة، وقد مرّ تحت الرقم (215) أنّ مرجعه إلى حمل «ذی هو» فیكون المعنى أنّ بسیط الحقیقة واجد لجمیع الكمالات الوجودیّة على وجه أشرف وأعلى ممّا یوجد فی الممكنات.

الفصل الخامس

416 ـ قوله «فی توحید الواجب لذاته...»

ربما یظهر من بعض كلمات الشیخ وغیره(2) أنّه إذا ثبت أنّ الواجب تعالى هو نفس


1. نفس المصدر: ص‌‌110ـ118.

2. راجع: التعلیقات: ص‌‌61؛ وراجع: الفصل السابع من المقالة الأولى والفصل الخامس من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌506، و 570؛ وراجع: التلویحات: ص‌‌36؛ والقبسات: ص‌‌76.

الوجود المتشخّص بذاته وأنّه لا مهیّة له ثبتت وحدته أیضاً، لأنّ الكثرة إنّما تتصوّر فی أفراد مهیّة كلّیة غیر متشخّصة بذاتها، فیتشخّص كلّ فرد منها بعوارض مشخّصه تخصّه، وحیث إنّ الواجب تعالى لیس إلاّ وجوداً بحتاً بسیطاً متشخّصاً بذاته لا بعوارض مشخّصة، فلا یتصوّر تعدّده. ویمكن المناقشة فیه بمنع انحصار الكثرة فی تعدّد أفراد المهیّة، فلأحد أن یفرض واجبین یكون كلّ واحد منهما نفس الوجود المتشخّص بالذات بلا جامع ماهوىّ بینهما، كما نبّه علیه صدر المتألّهین.(1)

417 ـ قوله «قد تبیّن فی الفصول السابقة...»

هذا البرهان یتشكّل من مقدّمتین: إحداهما وهی الصغرى أنّ الواجب تعالى وجودٌ صِرف، وثانیتهما وهی الكبرى أنّ كلّ ما هو صرف فلا یقبل التكرّر والتكثّر، فینتج أنّ الواجب واحد لا یمكن تعدّده. ولابدّ من توضیح لتینك المقدّمتین، فنقول:

الصِرف ـ وهو الخالص المحض ـ قد یقع نعتاً للمهیّة، ویراد به المهیّة المطلقة، ومعناه أنّ كلّ مهیّة إذا جُرّدتْ عن جمیع العوارض المشخّصة فهی أمر وحدانیّ. وهذه الوحدة هی الوحدة النوعیّة فی الأنواع والوحدة الجنسیّة فی الأجناس، ولا تتّصف بها إلاّ المهیّة المطلقة فی وعاء الذهن بما أنّها مفهوم، لا بما أنّ لها وجوداً ذهنیّاً، فإنّ وجودها الذهنیّ یتكثّر بتكثُّر التصوّرات والأذهان، كما أنّ الكلّی الطبیعیّ، وهی المهیّة المطلقة من قید الإطلاق أیضاً یتكثّر بتكثُّر الأفراد الخارجیّة لصدقها على المهیّة المخلوطة. وبالجملة فهذه الصرافة المفهومیّة لا تمتّ إلى صرافة وجود الواجب بصلة أصلاً، فلا تغفل.

وقد یقع الصِرف نعتاً للوجود، وهذا على ضربین: فقد یراد به قصر النظر على الوجود العینیّ لموجود مّا بلا التفات إلى خصوصیّاته وحدوده ونقائصه ممّا یصیر


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌129.

منشأً لانتزاع المهیّات وسائر المفاهیم، كما فی توجّه النفس إلىوجودها العینیّ المشهود لها حضوراً من غیر أن تلاحظ خصوصیّاته من العلیّة والمعلولیّة وغیرها ومن غیر أن تلاحظ حدودها التی هی منشأ انتزاع مهیّة النفس. فهذا المعنى من الصرف یتّصف به كلّ وجود عینیّ، ویوصف بأنّه لا یتكرّر بالمعنى الذی مرّ فی الفصل الخامس من المرحلة الاُولى، ویرجع إلى نفی تماثل الوجودین من جمیع الجهات. وهذا المعنى أیضاً غیر مراد ههنا، لأنّ غایة ما یستفاد منه أنّه إذا فرض واجبان كان لكلّ منهما جهة امتیاز تخصّه، وهذا هو الذی یفید للبرهان الآتی، دون هذا البرهان.

وقد یراد بصرافة الوجود كونه بحیث لا یمكن انتزاع مفهوم ماهویّ وعدمیّ منه، ویساوق بساطة الحقیقة واللاتناهی المطلق على ما مرّ ذكره فی آخر الفصل السابق، وهو الذی یفید فی هذا البرهان، وعلیه یحمل كلام شیخ الإشراق حیث قال: «صِرف الوجود الذی لا أتمَّ منه كلّما فرضته فإذا نظرت فهو هو، إذ لا میز فی صِرف الشیء».(1)

وأمّا الكبرى فإن اُرید بكلّیتها ما یشمل صرافة المهیّة وصرافة الوجود بالمعنى الأوّل كان معناها جمعَ حقائقَ مختلفةٍ فی لفظ مشترك، فإنّ إطلاق الصِّرف على المعانی المذكورة أشبهُ بإطلاق المشترك اللفظیّ على معانیه، كما أنّ نفی التكرّر والتكثّر فی كلّ مورد یعطی معنىً خاصّاً بذلك المورد. وإن اُرید بها صرافة الوجود بالمعنى الثانی كانت منحصرة فی مصداق واحد هو ذات الواجب تبارك وتعالى، فالكلیّة إنّما هی باعتبار فرض مصادیق متعدّدة، كما یقال إنّ النسبة بین كلّ واجبین مفروضین هی الإمكان بالقیاس. وكیف كان فالذی یفید فی هذا البرهان هو أنّ الوجود الصرف الذی لا أتمَّ منه والذی یلازم اللاتناهی المطلق واحد بالوحدة الحقّة الحقیقیّة، ولیست قابلة للتكثّر والتكرّر بوجه.(2) وقد تبیّنت هذه المقدّمة فی آخر الفصل السابق.


1. راجع: التلویحات: ص‌‌35.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌135ـ138؛ وراجع: الرقم (66) من هذه التعلیقة.

لا یقال: لازم هذا البرهان أن لا یتحقّق وجود لأیّ شیء آخَرَ ولو كان مخلوقاً له تعالى، لأنّ فرض أیّ وجود مبائن له یعنی خلوَّ الأوّل عنه، ویستلزم ذلك تناهیه وشوبه بمعنى عدمیّ لأجل فقدانه للوجود الثانی.

فإنّه یقال: الذی ینافی صرافته ولا تناهیه هو أن یفرض وجود مستقلّ فی عرْضه، بأن یفرض واجب آخَرُ، وأمّا فرض وجود رابط فی طوله فلا ینافی صرافته ووجدانه لكلّ كمال وجودیّ، فإنّ الوجود الإمكانیّ هو عین الفقر والربط والتعلّق، ولا استقلال له حتّى یعدّ ثانیاً للواجب تعالى، وهو سبحانه واجد بوجوده البسیط الأحدیّ كلَّ كمال مفروض على وجه أتمّ وأعلى.

418 ـ قوله «واُورد علیه الشبهة...»

قال شیخ الإشراق بعد ما استدلّ للتوحید بما یبتنی على نفی المهیّة عن الواجب تعالى: «وأمّا الذی یطول فی الكتب من البرهان على وحدة واجب الوجود... فإنّما یتقرّر إذا بُیّن أنّ الوجود لا یصحّ أن یكون اعتباریّاً لواجب الوجود ولا زائداً على المهیّة، وإن لم یتبیّن هذا فیقول القائل: یشتركان فی وجوب الوجود وهو اعتباریّ لا وجود له فی الأعیان، فلیس ممّا یحتاج إلى علّة».(1) وقال أیضاً بصدد المناقشة فی برهان آخر: «یقول الخصم: وجوب الوجود لازم اعتباریّ، ولكلّ واحد منهما ذات وحدانیّة ـ إلى أن قال ـ بل إنّما یتأتّى إذا بُیّن أنّ الوجود فی واجب الوجود خاصّةً لیس باعتباریّ وإن وُضع اعتباریّاً فی غیره، وأنّ ماهیّته عین الوجود».(2)

وقد أكّد صدر المتألّهین على أنّ براهین التوحید إنّما تتمّ على القول بأصالة الوجود ونفی المهیّة عن الواجب تعالى، وأنّ هذه الشبهة شدیدة الورود على القول


1. راجع: المطارحات: ص‌‌393.

2. نفس المصدر: ص‌‌395.

بأصالة المهیّة مطلقاً.(1) وقال المحقّق السبزواریّ فی تعلیقته على الأسفار ما حاصله أنّ الشبهة المذكورة ترد على القول بكون الوجودات حقائقَ متباینةً أیضاً، لتجویزهم انتزاعَ مفهوم واحد عن حقائق متباینةٍ، فلا یمكنهم دفع هذه الشبهة.(2)

لكن یمكن أن یقال بأنّ القول بنفی المهیّة عن الواجب تعالى یكفی لدفع الشبهة وإن قیل باعتباریّة الوجود فی الممكنات، ویبقى جواب السؤال عن هذا التفصیل على ذمّتهم. وكذا یمكن دفعها على القول بتباین ذوات المهیّات فی الموجود مع القول بنفی المهیّة عن الواجب تعالى. وقد مرّ تحت الرقم (28 و 29)، أنّ التشكیك الخاصّی فی الوجود یختصّ بما بین العلل ومعالیلها دون المعالیل الواقعة فی مرتبة واحدة.

وكیف كان فقد قال صدر المتألّهین فی دفع الشبهة ما هذا لفظه: «وجه الاندفاع أنّ مفهوم واجب الوجود لا یخلو إمّا أن یكون فهمه عن نفس ذات كلّ منهما من دون اعتبار حیثیّة خارجة عنها، أیَّةَ حیثیّةٍ كانت، أو مع اعتبار تلك الحیثیّة، وكلا الشقّین مستحیلان. أمّا الثانی فلما مرّ أنّ كلّ ما لم یكن ذاته مجرّدَ حیثیّة انتزاع الوجود والوجوب والفعلیّة والتمام فهو ممكن فی حدّ ذاته، ناقص فی حریم نفسه. وأمّا الأوّل فلأنّ مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق صدقه بالذات ـ وبالجملة ما منه الحكایة بذلك المعنى وبحسبه التعبیر عنه به مع قطع النظر عن أیّة حیثیّة وأیّةِ جهة اُخرى كانت ـ لا یمكن أن یكون حقائقَ مختلفة الذوات، متباینة المعانی، غیرَ مشتركةٍ فی ذاتیّ أصلاً».(3) وقال فی موضع آخر: «لو كان فی الوجود واجبان لذاتیهما كان الوجود الانتزاعیّ مشتركاً بینهما كما هو مسلّم عند الخصم، وكان ما


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌131؛ وج6: ص‌‌5860؛ والمبدء والمعاد: ص‌‌53.

2. راجع: الأسفار: ج‌6، ذیل الصفحة 58 و 59.

3. نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌133.

بإزائه من الوجود الحقیقیّ مشتركاً أیضاً بوجه ما، فلابدّ من امتیاز أحدهما عن الآخر بحسب أصل الذات، إذ جهة الاتّفاق بین الشیئین إذا كانت ذاتیّة لابدّ وأن یكون جهة الامتیاز والتعیّن أیضاً ذاتیّاً، فلم یكن ذات كلّ منهما بسیطة، والتركیب ینافی الوجوب كما علم».(1)

419 ـ قوله «لو تعدد الواجب بالذات...»

حاصله أنّه لو فرض واجبان كان لكلّ منهما ما لیس للآخر من الكمال الوجودیّ، لكنّ الواجب صِرفٌ بسیطٌ لا یفقد أیّ كمال، فلیس إلاّ واحداً. فهذا البرهان یرجع إلى البرهان الأوّل، والفرق بینهما هو الفرق بین البیان المستقیم والخلفیّ.

420 ـ قوله «برهان آخر ذكره الفارابیّ...»

ونقله عنه فی الأسفار ثمّ قال: «هذا مجملٌ تفصیلُه ما سبق من البیان». والظاهر أنّه إشارة إلى البرهان المذكور قبله: «لو تعدّد الواجب فإمّا أن تتّحد المهیّة فی ذلك المتعدّد أو تختلف، وعلى الأوّل لا یكون حملها على كثیرین لذاتها، وإلاّ لما كانت مهیّتها بواحدة، فیلزم تحقّق الكثیر بدون الواحد. وعلى الثانی یكون وجوب الوجود عارضاً لهما، وكلُّ عارض معلول إمّا لمعروضه فقط أو بمداخلة غیره، والقسمان باطلان: أمّا الأوّل فلاستیجاب كونه علّة نفسه وأمّا الثانی فأفحش».(2) ولا ریب أنّ المراد بالمهیّة ههنا هو «ما به الشیء هو هو» فلا ینافی نفی المهیّة بمعنى «ما یقال فی جواب ما هو» عنه تعالى.

وللشیخ عبارات فی التعلیقات قریبة منها، كقوله «لا یصحّ فی واجب الوجود


1. نفس المصدر: ج‌6، ص‌‌60.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌6263؛ والمقاومات: ص‌‌188ـ189.

الاثنینیّة، فإنّه لا ینقسم، لأنّ المعنى الأحدیّ الذات لا ینقسم بذاته، فإن انقسم هذا المعنى ـ وهو وجوب الوجود ـ فإمّا أن یكون واجباً فیه أو ممكناً أن ینقسم، وكلا الوجهین محال فی واجب الوجود، فإنّه غیر واجب فیه أن ینقسم لأنّه بذاته واجب ولا علّة له فی وجوده، فهو أحدیّ الذات، والإمكان منه أبعد».(1) ولعلّ التعبیر بالانقسام بدلاً عن التعدّد والتكثّر ـ كما عبّر به الفارابیّ أیضاً ـ هو لأجل الإشارة إلى حقیقته العینیّة دون مفهوم الواجب.

وقال فی موضع آخر: «فإن تكثَّر واجب الوجود وكان تكثُّره بذاته لم یكن واحد أصلاً ولم تكن كثرة أیضاً، فیبطل أن یوجَد الواحد من واجب الوجود، فإذن لا یتكثّر معنى واجب الوجود. وواجب الوجود شخصه فی ذاته لا یتشخّص بغیر ذاته».(2)

وقال أیضاً: «لا یصحّ فی واجب الوجود أن یتكثّر لا فی معناه ولا فی تشخّصه، والشیء إذا تكثّر فإمّا أن یتكثّر فی معناه، وكلّ معنى فإنّه فی ذاته واحد لا یتكثّر فی حقیقیته، وإمّا فی تشخّصه، فإنّ شخص واجب الوجود أنّه هو، فتشخُّصه و«أنّه هو» واحد، وهو نفس ذاته وحقیقته».(3)

وأحسن كلماته فی هذا الباب هو قوله: «إن كان واجب الوجود اثنین، فكلّ واحد منهما إمّا أن یكون وجوب الوجود وهویّته شیئاً واحداً فیكون كلُّ ماهو واجب الوجود هو بعینه، وإن كان وجوب الوجود غیر هویّته لكنّه یختصّ به ویقارنه، فاختصاصه به إمّا لذاته أو لعلّة، فإن كان لذاته ولأنّه واجب الوجود كان كلّ ما هو واجب الوجود هو بعینه، وإن كان لسبب كان معلولاً».(4)


1. راجع: التعلیقات: ص‌‌37.

2. نفس المصدر: ص‌‌184.

3. نفس المصدر: ص‌‌61.

4. راجع: نفس المصدر: ص‌‌184 و 182 و 183؛ وراجع: النمط الرابع من الإشارات؛ والقبسات: ص‌‌76ـ77؛ والنجاة: ص‌‌229ـ230؛ وراجع: الفصل السابع من المقالة الاُولى، والفصل الخامس من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء.

الفصل السادس

421 ـ قوله «فی توحید الواجب لذاته فی ربوبیّته...»

هذا الفصل یحاذی ما عقده فی الأسفار بهذا العنوان «فی أنّ واجب الوجود لا شریك له فی الإلهیّة وأنّ إله العالم واحد»(1) وقال فی وجه إفراده بالذكر: «إذ مجرّد وحدة الواجب بالذات لا یوجب فی أوّل النظر كون الإله واحداً». ولعلّ النكتة فی الإتیان بالربوبیّة والربّ ـ بدلاً عن الإلهیّة والإله ـ أنّ الأصل فی معنى الإله هو المعبود، والمراد بهذا الفصل بیان التوحید فی الخلق والتدبیر، فكان الأنسب به مفهوم الربوبیّة.

ثمّ إنّه ذكر بیاناً مبنیّاً على وحدة الواجب فی وجوب الوجود، حاصله أنّه لمّا ثبتت وحدة الواجب بالذات وكون ما سواه ممكناً بالذات ثبت استناد ما سواه إلیه، لاحتیاج الممكنات إلى الواجب بالذات بلا واسطة أو مع الواسطة، فالكلّ من عند اللّه‏.(2)

وذكر برهاناً آخر مبتنیاً على وحدة العالم ونسبه إلى أرسطو، وحاصله أنّ العالم الجسمانیّ واحد وحدةً شخصیّة متلازمة الأجزاء، وكلّ ما كان كذلك كان له علّة واحدة. وأمّا العقول فهی علل متوسّطة لهذا العالم، وأمّا النفوس فهی صور مدبّرة للأبدان، فجمیع ما سواه یستند إلیه، وهو المطلوب.(3) وقد بسط القول فی إثبات وحدة العالم على ما هو المأثور من المتقدّمین(4) وفیه مواقع للنظر.

ثمّ إنّه حاول تطبیق مفاد الآیة الكریمة «لَوْ کَانَ فِیهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(5) على هذا البرهان قائلاً «ولا یبعد أن یراد بالفساد الانتفاء رأساً. ووجه الدلالة أنّ المراد


1. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌92.

2. نفس المصدر: ص‌‌93ـ94؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص‌‌55.

3. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌94ـ100؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص‌‌5864.

4. راجع: النجاة: ص‌‌136ـ138.

5. سورة الأنبیاء، الآیة 22.

أنّه لو تعدّد الإله (تعالى عن ذلك) لزم أن یكون العالم الجسمانیّ وما ینوط به متعدّداً، واللازم باطل كما مرّ، فالملزوم مثله، كما وضح من قوله «إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلی بَعْضٍ».(1)

وجدیر بالذكر أنّ وحدة العالم قد تُراد بها الوحدة الاتّصالیة، وهی التی تلوح من كلام المعلّم الأوّل، وقد یراد بها أنّ للعالم صورةً طبیعیّةً شخصیّة، وهو الذی یظهر من بعض ما نُقل عنه فی غیر هذا الموضع،(2) وقد یراد بها أنّ له نفساً مدبّرةً تسمّى بالنفس الكلّیة، فیصیر العالم مع تلك النفس أكبر موجود حیّ، ویعبّر العرفاء، عنه بالإنسان الكبیر، كما أنّهم قد یعبّرون به عن كلّ ما سوى اللّه‏،(3) وقد تراد بها وحدة النظام بالنظر إلى ما لأجزائها من الفعل والتأثیر فی بعضها والانفعال والتأثّر عن بعضها، وهو الذی یظهر من كلام بهمنیار، وقد ركّز علیه الاُستاذ(قدس‌سره) فی بیانه فی هذا الفصل.

أمّا الوجه الأوّل فقد تصدّى المعلّم الأوّل لإثباته من طریق نفی الخلأ ـ على ما حكی عنه، وأمّا الوجهان المتوسّطان فلم یقم علیهما برهان فی ما نعلم، وما ذُكر لهما من بیان فهو أشبه بالخطابة. وأمّا الوجه الأخیر فمستند إلى التجارب الحسّیة، لكنّه لا یكفی دلیلاً على الوحدة الشخصیّة الحقیقیّة للعالم حتّى تصدق علیه الكبرى القائلة «المعلول الواحد الشخصیّ لا یصدر إلاّ عن علّة واحدة بالشخص»، ولعلّه لأجل ذلك عدل الاُستاذ(قدس‌سره) عن هذا البرهان إلى ما یأتی بیانه.

وأمّا الآیات الكریمة فالظاهر عدم انطباق مفادها على هذا البرهان، وتفسیر الفساد بالانتفاء وعدم التحقّق رأساً مشكل جدّاً، خاصّةً بالنظر إلى قوله تعالى «فیهما» فتأمّل. ولعلّ ما سیأتی من البیان هو الأوفق بمفادها، فانتظر.


1. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌99؛ والآیة هی 91 من سورة «المؤمنون».

2. راجع: الفصل العاشر من الفن الثانی من طبیعیّات الشفاء؛ والأسفار: ج‌7، ص‌‌113؛ والقبسات: ص‌‌415.

3. راجع: القبسات: ص‌‌340 و 413414 و 425 و 460462؛ وراجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌349.

422 ـ قوله «الفحص البالغ...»

هذا البیان یتشكّل من ثلاث مقدّمات: هی وحدة نظام العالم الجسمانیّ، ومعلولیّته لنظام عقلیّ، ومعلولیّة ذلك لنظام ربّانیّ، فینتج أنّ هذا العالم مخلوق مدبَّر للواجب تعالى بوساطة العالم العقلیّ، فهو ربّ العالمین. ولك أن تعتبر له مقدّمة رابعة هی أنّ علّة علّة الشیء علّة لذلك الشیء.

أمّا المقدّمة الاُولى فتتبیّن بارتباط أجزاء العالم بعضها ببعض، فإنّ الأجزاء الحالیّة ترتبط بالأجزاء التی سوف تحدث من حیث إنّها تشكّل موادّها وتهیّىء الأرضیّة لحدوثها، كما أنّها حدثتْ من الأجزاء السابقة. والأجزاء المتزامنة یرتبط بعضها ببعض بأنواع من التأثیر والتأثّر والفعل والانفعال ممّا یؤدّی إلى نموّ بعضها وذبول بعضها الآخر إلى غیر ذلك. فماء البحر مثلاً یتسخّن بضوء الشمس فیتبخّر ویصعد إلى الجوّ سحاباً، ثمّ یتبدّل بتأثیر العوامل الجوّیّة إلى المطر فینزل على سطح الأرض فینمو به النبات، فیأكله الحیوان، كما أنّ الإنسان یتغذّى به وبلحم الحیوان. فلكلّ جزء من أجزاء العالم ارتباط عرْضیٌّ بالأجزاء المتزامنة وارتباط طولیٌّ زماناً بالأجزاء السابقة واللاحقة، ممّا یجعل الكلَّ منتظماً بنظام واحد شامل، فیحتاج بعضها إلى بعض فی حدوثه وبقائه ونشوئه وتحوّله.

أمّا المقدّمة الثانیة فتنحلّ إلى اُمور: أحدها وجود العالم العقلیّ، وهو الذی اُشیر إلیه فی ما مضى وسیأتی تفصیل القول فیه. وثانیها علّیته للعالم الجسمانیّ، ویعلم من وقوعه فی مرتبة علیا من مراتب الوجود بالنسبة إلى العالم الجسمانیّ واشتماله على كمالات هذا العالم بنحو أتمّ. وثالثها وحدته، ویعلم من وحدة النظام الناشیء منه، فإنّ مثل هذا النظام الواحد الجاری فی العالم الجسمانیّ لا یمكن أن یصدر عن فواعل متعدّدة، لأنّ فرض علل كثیرة لها یعنی أنّ كلّ واحد منها یستقلّ بإیجاد

قسم من هذا العالم وتدبیره بلا حاجة إلى أمر آخر، ممّا یؤدّی إلى انعزال أجزاء العالم بعضها عن بعض، وقد تبیّن خلافه.

وأمّا المقدّمة الثالثة فتنحلّ أیضاً إلى ثلاثة اُمور: أحدها وجود الواجب تعالى، وثانیها وحدته، وقد تبیّنا فی سالف الفصول. وثالثها علّیته للعالم العقلیّ، ویتبیّن بمثل ما تبیّن به علّیة العالم العقلیّ للعالم الجسمانیّ. وأمّا اعتبار النظام فی العالم العقلیّ وفی علم الواجب تبارك وتعالى فبالنظر إلى اشتمال المرتبة العالیة من الوجود على كمالات ما دونها بوجه أتمّ وأعلى، وأصل الاصطلاح للمشّائین حیث اعتبروا وجود الصور فی العالم العقلیّ وفی علم البارئ سبحانه، فافهم.

فبهذه المقدّمات یتبیّن أنّ الواجب بالذات الواحدَ فی وجوب وجوده علّةٌ للعالم العقلیّ الذی هو علّة للعالم الجسمانیّ، فتنضمّ إلیه المقدّمة الأخیرة، فیستنتج أنّه علّة لما سواه بلا واسطة أو مع الواسطة، ویثبت وحدته فی الربوبیّة.

ویمكن الاستغناء عن المقدّمة الثانیة بأن یقال: للعالم الجسمانیّ نظام واحد، ومثل هذا النظام لا یمكن أن یستند إلاّ إلى علّة مفیضة واحدة، استناداً مباشراً أو غیرَ مباشر، ولیست إلاّ الواجب بالذات. وهذا البیان یتّفق مع القول بالعقول العرْضیّة أیضاً.

بل یمكن أن یقال: إنّ هذا البیان لا یحتاج إلى سبق إثبات وحدة الواجب فی وجوب وجوده أیضاً، لأنّ المطلوب هو وحدة الربّ لهذا العالم، وهو یتمّ بهذا البیان ولو فرض وجود واجب آخر غیر فاعل لشیء أصلاً. ثمّ تنضمّ إلیه مقدّمة اُخرى هی أنّ الواجب بالذات واجب من جمیع الجهات. فیبطل فرض واجب یمكنه إیجاد العالم وقد عطّل فعله، فتثبت وحدة الواجب فی وجوب وجوده أیضاً.

ولعلّ مفاد الآیة السابقة الذكر أشدُّ انطباقاً على هذا البیان، وتقریره أنّ قوام هذا العالم هو بارتباط أجزائه بعضها ببعض، وفرض علل متعدّدة وأرباب متفرّقین له

یستلزم انعزال أجزائه بعضها عن بعض، لقیام كلّ جزء منه حینئذ بعلّته بلا واسطة أو بوساطة معلولاتها، فینعزل عن غیرها وعن معلولات غیرها، وهو یؤدّی إلى فساد هذا النظام.

423 ـ قوله «على أنّه لو فُرض...»

هذا بیان آخر لإثبات التوحید فی الربوبیّة، ویبتنی على ثلاث مقدّمات: هی أنّ تعدُّد الآلهة یقتضی تمیّز كلّ واحد منها بكمال وجودیّ خاصّ به، وأنّ اختصاص كلّ منها بخاصّة وجودیّة یؤدّی إلى اختلاف فی أفعالها لضرورة المسانخة بین العلّة والمعلول، وأنّ ذلك یوجب عدم تلاؤم أجزاء العالم بل تدافعَها وفسادَها.

ویلاحظ علیه أنّه إن اُرید بتمیّز كلّ واحد من الآلهة المفروضین بكمال وجودیّ خاصّ ما یوجب اختلاف سنخ الكمال فیها فالمقدّمة الاُولى ممنوعة، لأنّه یكفی فی حصول التمیّز اختلافُها فی التشخّص من غیر اختلاف فی السنخ والنوع، وإن اُرید به ما یشمل اختلاف الأشخاص مع وحدة نوع الكمال فالمقدّمة الثانیة ممنوعة، لجواز أن یكونوا جمیعاً من سنخ واحد، فلا تتدافع أفعالها.

ویمكن الدفاع عنه بأنّ الكلام فی تعدّد موجودَین مجرّدَین، وقد مرّ فی آخر المرحلة الخامسة أنّ كلَّ مجرّد ینحصر فی فرد واحد، ففرض تعدّد الآلهة إنّما یتمشَّى مع فرض الاختلاف النوعی بینها لكن قد عرفت المناقشة فیه تحت الرقم (108) ولو كان ذلك أصلاً محقّقاً لكان الأولى الاستنادَ إلیه رأساً فی إثبات التوحید، فتأمّل.

وتمكن المناقشة فی المقدّمة الثالثة أیضاً بأنّ التدافع إنّما یتصوّر فی ما إذا قام الجمیع بتدبیر شیء واحد، وأمّا إذا استقلّ كلُّ منها بتدبیر جزء خاصّ من العالم فلا یحصل تدافع. نعم، هذا الفرض لا یلائم ارتباط أجزاء العالم وتلازمها، فلتُؤخذ المقدّمة الاُولى من مقدّمات البرهان السابق كمقدّمة رابعة فی هذه الحجّة.

424 ـ قوله «فإن قیل...»

حاصل هذا الإشكال أنّ التدافع فی التدبیر إنّما یلزم إذا لم یتوافقوا على مخطّط واحد، لكنّ الحكمة تقتضی التوافق على ما یصلح لبقاء العالم، فما المانع من أن تكون هناك آلهة متوافقون على النظام الجاری فی العالم بقیام كلّ واحد منهم بتدبیر جزء منه؟

وقد یجاب عنه بأنّ هذا لا یلائم وجوبهم بالذات، لأنّ الواجب بالذات واجب من جمیع الجهات، فلا یصحّ فرض تعطیل بعض أفعاله لأجل الآخرین.

وللمستشكل أن یقول: لا نفرض وجوب الأرباب بالذات، بل نفرض أنّهم مخلوقون للواجب بالذات، لكن یخلق كلُّ واحد منهم جزءاً من العالم ویقوم بتدبیره، إلاّ أنّه تتلاءم تلك الأفعال بحیث یحصل منها هذا النظام. وخلقهم على هذا النمط هو مقتضى حكمة الواجب بالذات.

لكن مآل ذلك إلى أنّهم لا یكونون أرباباً مستقلّین فی أفعالهم، وإنّما هم وسائط فی الإیجاد ومدبّرون للعالم من قِبل الواجب بالذات وعلى ما أعطاهم من العلم والقدرة لذلك، وتسمیتهم بالربّ لیس یعنی ما یوجب إشراكهم فی ربوبیّة الواجب، لعدم استقلالهم فی أفعالهم، بل هم المدبّرون بإذنه. ولا سبیل إلى نفی مثل هؤلاء المدبّرین، بل هناك ما یدلّ على وجودهم من النصوص الدینیّة، مثل ما یدلّ على وجود ملائكة موكّلین بالتصویر والتدبیر وتقسیم الأرزاق وتوفّی النفوس إلى غیر ذلك. والذی یوجب الشرك هو القول باستقلالهم فی هذه الأفعال وعدمِ استنادهم إلى إذن الله تكویناً كما یقول المشركون، سبحانه وتعالى عمّا یصفون.

وأمّا ما أجاب به الاُستاذ(قدس‌سره) فحاصله أنّ وجود هؤلاء الأرباب المفروضین إمّا أن یكون مجرّداً تامّاً فیلزم أن یكون علمهم حضوریّاً وفاعلیّتهم بالرضا ونحوه لا بالقصد والتروّی، فلا یصحّ فرض تشاورهم وتوافقهم على عمل، ولا الكفّ عمّا

یقتضیه كمالُهم وعلمُهم لأجل التوافق مع الآخرین؛ وإمّا أن یكون وجودهم متعلّقاً بالمادّة ویكون علمهم حصولیّاً فمثل هذا العلم لابدّ وأن ینتهی إلى الموجودات الخارجیّة مباشرةً أو مع الواسطة، ویكون حصوله تابعاً لوجود المعلوم متأخّراً عنه، لا سابقاً علیه مؤثّراً فیه.

الفصل السابع

425 ـ قوله «فی أنّ الواجب بالذات لا مشارك له...»

هذا الفصل أیضاً یحاذی ما ذكره صدر المتألّهین، وقد أضاف الاُستاذ(قدس‌سره) قید «من حیث المصداق» فی عنوان الفصل، لأنّ بعض المفاهیم وإن كان مشتركاً بین الواجب والممكنات كالحیاة والعلم والقدرة وغیرها إلاّ أنّ الممكنات تختلف عنه من حیث المصداق، فهذه الصفات مثلاً زائدة على ذوات الممكنات بخلافها فی الواجب كما سیأتی البحث عنه، مضافاً إلى أنّ ما للواجب من حقیقة هذه المفاهیم وأشباهها من المفاهیم الوجودیّة هو المرتبة الغیر المتناهیة فی الشدّة والتی لا یخالطها نقص ولا عدم بخلاف الممكنات. فهذا الفصل كأنّه تفصیل لما اُجمل فی قوله تعالى «لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْ‌ءٌ»(1) وإن كان العنوان لا یخلو عن إبهام.

وجدیر بالذكر أنّ صدر المتألّهین أكّد فی هذا الفصل على نفی أیّ مناسبة بین الواجب والممكنات كالحلول والاتّحاد ونسبة النفس إلى البدن ونحوها ممّا وقع فی بعض كلمات الصوفیّة.(2)


1. سورة الشورى، الآیة 11.

2. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌107ـ109؛ والمبدء والمعاد: ص‌‌6466.

الفصل الثامن

426 ـ قوله «فی صفات الواجب...»

تنقسم المفاهیم إلی ثبوتیّة وسلبیّة، والمفاهیم الثبوتیّة قد تكون حاكیةً عن الوجودات المكتنفة بالأعدام من حیث إنّها مكتنفة بها بحیث اذا جُرّدتْ عن جهات النقص تبدّلتْ إلى مفاهیم اُخرى كمفهوم الجسم وما یشابهه من المفاهیم الماهویّة، وكمفهوم القوّة والاستعداد وما یضاهیه من المعقولات الثانیة. ومثل هذه الصفات والمفاهیم لا تتّصف به ذاته المتعالیة، لاستلزامها النقص والمحدودیّة فیه سبحانه. وقد تكون حاكیة عن الجهات الوجودیّة مطلقاً سواءً كانت مكتنفة بالأعدام أو لم تكن، فإنّها وإن انتزعتْ لأوّل مرّة عن الوجودات الفاقرة إلاّ أنّه یصحّ تجریدها من الجهات الماهویّة والعدمیّة من غیر أن تتبدّل إلى مفاهیم اُخرى. وهذه المفاهیم هی التی تشكّل الصفات الثبوتیّة للواجب تعالى كالعلم والقدرة والحیاة، بل الجمال والحبّ والبهجة وغیرها،(1) وقد مرّ فی الفصل السابق أنّ مصداق هذه المفاهیم فی الواجب یختلف عن المصادیق الممكنة.

وأمّا المفهوم السلبیّ فقد یكون سلباً محضاً كمفهوم العدم المطلق، ولا سبیل له إلى ساحة قدسه، وقد یكون سلباً إضافیّاً فالمضاف إلیه السلبُ قد یكون أمراً وجودیّاً مشترطاً بحدود عدمیّة كالجسم والمكان والزمان فیتّصف الواجب تعالى بسلوبها، لرجوع ذلك إلى سلب الحدود العدمیّة، فیؤول إلى الإثبات. وقد یكون المضاف إلیه السلبُ أمراً وجودیّاً غیر مشترط بحدود عدمیّة كسلب العلم (=


1. راجع: المبدأ والمعاد: ص‌‌148ـ160؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌2، ص‌‌494.

الجهل) وسلب القدرة (= العجز) فلا یتّصف الواجب تعالى بمثل هذه السلوب، لاستلزامه سلب كمال وجودیّ عنه وقد تحقّق بطلانه، ولإدّائه إلى التناقض، لاتّصافه بمقابلاتها.

427 ـ قوله «والصفات الثبوتیّة تنقسم...»

ذكر صدر المتألّهین أنّ الصفات الثبوتیّة تنقسم إلى حقیقیّة كالعلم والحیاة، وإضافیّة كالخالقیّة والرازقیّة والتقدّم والعلّیة.(1) وظاهر كلامه خاصّةً بالنظر إلى ما مثّل به للصفات الإضافیّة أنّ المراد بها هی المفاهیم المنتزعة عن مقایسة الذات إلى شیء آخر ـ وینحصر ذلك الشیء فی أفعاله ومخلوقاته ـ فتنطبق على الصفات الفعلیّة. وأمّا جعل العالمیّة والقادریّة إضافیّة وجعل الخالق والرازق حقیقیّة ذات إضافة فیمكن توجیهه بأنّ المراد بالعالمیّة والقادریّة نفس الإضافة، وبالخالق والرازق هو المضاف. لكن لا أرى فائدة فی هذا التقسیم، فلیتأمّل.

الفصل التاسع

428 ـ قوله «فالذات نائبةٌ منابَ الصفات»

المراد أنّ خصوصیّات أفعالنا الكمالیّةَ مستندةٌ إلى صفاتنا التی هی غیر ذواتنا، وهذه الخصوصیّات الكمالیّة موجودة فی أفعال الواجب تعالى بنحو أتمَّ، من غیر وجود صفات له، بل یكون ذاته بحیث تصدر عنها الأفعال الحكیمة من غیر حاجة إلى صفات توجبها، فالذات نائبة عن الصفات.


1. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌118ـ119.

وهذا القول أقرب الأقوال إلى قول الحكماء وربما یتمسّك لتأییده بكلام مولانا أمیرالمؤمنین(علیه‌السلام) «وكمال توحیده نفی الصفات عنه» وقد تصدّى صدر المتألّهین لتفسیر هذا الكلام بما ینطبق على القول الحقّ.(1)

429 ـ قوله «وبهذا یبطل...»

ویرد علیه أیضاً أنّ نفی أحد المتقابلین هو فی قوّة إثبات الآخر إذا لم یكن واسطة بینهما، فلا معنى لنفی الجهل والعجز مع عدم إثبات العلم والقدرة، ویؤدّی ذلك إلى التناقض. مضافاً إلى أنّ هذه المفاهیم العدمیّة إنّما تحصل من إضافة العدم إلى ملكاتها، فما لم تتصوّر تلك الملكات لم تنتزع هذه المفاهیم، وما لم تثبت تلك الملكات للموضوع لم یصحّ سلب أعدامها عنه.

الفصل العاشر

430 ـ قوله «فی الصفات الفعلیّة...»

الصفات الفعلیّة هی المفاهیم التی تنتزع من إضافة الذات إلى أفعالها. وتلك المفاهیم تكون ذات طرفین: یقع أحدهما على الواجب، والآخر على مخلوقاته، كالخالق والرازق وغیرهما، فلا تحكی عن حقائقَ عینیّةٍ زائدةٍ على الوجود الوجوبیّ وما هو طرف له من الوجودات الإمكانیّة، ولا تعنی إلاّ انتساب وجود المعلول إلى وجود العلّة باعتبار خاصّ. فإذا لاحظْنا وجوداً إمكانیّاً غیر مسبوق بمادّة ولا مثالٍ سابقٍ انتزعنا مفهوم الإبداع، وإذا لاحظْنا وجوداً إمكانیّاً یحتاج إلیه موجود آخرُ فی بقائه واستكماله انتزعنا مفهوم الرزق، وهكذا. ولیس فی حاق


1. نفس المصدر: ص‌‌136ـ145.

الأعیان إلاّ وجود الواجب ووجود مخلوقاته، وقد مرّ مراراً أنّ الإضافة لیست من الحقائق العینیّة، فتذكّر.

ولیست هذه الصفات الإضافیّة عین ذات الواجب، ولا عین ذوات المخلوقات، ولا منتزعةً عن أحد الطرفین بعینه، لتوقّف انتزاعها على لحاظ الطرفین.

وإذا كان المخلوق حادثاً زمانیّاً ومحدوداً بقیود وضعیّة وغیرها كان لهذه المفاهیم اعتباران: اعتبارُ انتسابها إلى الواجب، فلا تتّصف من هذه الحیثیّة بالحدوث وغیره من الصفات الإمكانیّة، واعتبارُ انتسابها إلى الحوادث المحدودة، فتتّصف من هذه الحیثیّة بالحدوث والحدود. لكنّ الإضافة بما أنّها أمر قائم بالطرفین كانت تابعة لأخسّهما.

فإذا قیل: خلق الله هذا الحادث فی هذا الزمان، فلیس معناه أنّ الخلق من حیث تعلّقه بالواجب تعالى واقع فی وعاء الزمان بحیث یحتاج إلى تصوّر زمان فی الصقع الربوبیّ، بل إنّما زمانیّته تكون باعتبار تعلّقه بالمخلوق الحادث. وبعبارة اُخرى: لا یكون الفعل والإیجاد بالمعنى المصدریّ المنسوب إلى الفاعل واقعاً فی ظرف الزمان والمكان مثلاً، بل الذی یقع فی مثل هذه الظروف هو حاصل الفعل وبمعنى اسم المصدر ومن حیث الانتساب إلیه، وهو نفس الوجود الإمكانیّ. وبهذا یفسّر ما یدلّ على قیودٍ لفعل الواجب تعالى، فتبصّر.

الفصل الحادی عشر

431 ـ قوله «فی علمه تعالى»

هذه المسألة هی من أغمض المسائل الحكمیّة. وقد بذل كبار الفلاسفة والمتكلّمین جهوداً وافرةً لتبیینها، وعقدوا مسائلَ كثیرةً فی باب العلم تمهیداً لحلّها، كالعقل

الإجمالیّ، والعلم الكلّی الحاصل من الأسباب قبل تحقّق مسبّباتها، وغیرهما ممّا ركّز علیه الشیخ فی كتبه، ویكفیك نموذجاً جلیّاً لهذه الجهود ما ترى فی كتاب التعلیقات، حیث عالج هذه المسألة مرّةً بعد اُخرى، ممّا یشكّل قسماً كبیراً من هذا الكتاب.(1) ولهم أقوال عدیدة، ومباحثات طویلة، ومناقشات عنیفة، تعرّض لبعضها صدر المتألّهین،(2) وتصدّى للمحاكمة بینها، وقد مهّد نفسه مقدّمات(3) لتوضیح ما اختاره من العلم الإجمالیّ فی عین الكشف التفصیلیّ، ممّا یُعدّ أروعَ منتوجٍ للتفكیر الفلسفیّ، وأبدعَ منسوجٍ للعقل البشریّ، وإن كانت حقیقة المقصود أرفعَ ممّا یحلّق إلیه طائر الذهن الإنسانیّ، «وَلاَ یُحِیطُونَ بِشَیْ‌ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ».

432 ـ قوله «وأمّا المادّیة فبصورها المجرّدة»

قال صدر المتألّهین: «أكثر الأقوام ذاهلون عمّا حقّقناه من أن لا حضور لهذه المادّیات والظلمات عند أحد، ولا انكشاف لها عند مبادئها إلاّ بوسیلة أنوار علمیّة متّصلة بها هی بالحقیقة تمام ماهیّاتها الموجودة بها».(4)

وقال المحقّق السبزواریّ فی تعلیقته على الأسفار: «وإن سألت عن الحقّ فأقول: عدم كون هذه المادّیات والظلمات أنواراً علمیّة إنّما هی بالنسبة إلینا، وأمّا بالنسبة إلى المبادئ العالیة ـ وخصوصاً بالنسبة إلى مبدء المبادئ ـ فهی علوم حضوریّة فعلیّة ومعلومات بالذات، وإن لم تكن هذه المرتبة من العلم فی مرتبة العلم العنائیّ الذاتیّ. فحصولها للمادّة ینافی العلم فینا، إذ لسنا محیطین فلسنا مدركین نالین لها،


1. راجع: التعلیقات: ص‌‌13ـ15 و 24ـ29 و 48 و 60 و 6566 و 78 و 81 و 97 و 102 و 103 و 116 و 118 و 119ـ126 و 149 و 152ـ156 و 158ـ159 و 191ـ193.

2. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌169ـ289.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌149ـ168؛ والمبدء والمعاد: ص‌‌76ـ123.

4. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌164.

وأمّا بالنسبة إلى المحیط بالمادّة وما فیها فحضورها للمادّة حضور له، إذ لم یشذّ المادّة عن حیطته، بل حضورها له بنحو أشدَّ، لأنّ لها حضوراً للفاعل بالوجوب، لأنّ نسبة المعلول إلى فاعله بالوجوب ـ إلخ ـ ».(1)

وقد مرّ ما یتعلّق بهذا الموضوع تحت الرقم (353 و 385).

433 ـ قوله «ویتفرّع على ذلك...»

وهذه العلوم على مراتبها متوسّطةٌ بین العلم الذاتیّ الذی هو عین ذاته المقدّسة والعلم الذی هو عین ذوات المادّیات، كما ذهب إلیه المحقّق السبزواریّ وسبقه إلیه شیخ الإشراق وقد مرّ تأییده. وتُسمَّى علوماً فعلیّة باصطلاحین: أحدهما بمعنى كونها عللاً لوجود ما دونها، وثانیهما بمعنى كونها فی مقام الفعل دون مقام الذات، كما أنّ العلم فی مرتبة الحوادث یُسمَّى علماً فعلیّاً بالمعنى الثانی فقط.

ولْیُعلْم أنّ كون المجرّدات علوماً للواجب كما ربما یظهر من بعض النصوص كقوله تعالى «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَیْبِ ... وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ یَابِسٍ إِلاَّ فِی کِتَابٍ مُبِینٍ‌»،(2) وقوله تعالى: «قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّی فِی کِتَابٍ لاَ یَضِلُّ رَبِّی وَلاَ یَنْسَى‌»(3) وكذا كون الحوادث علوماً للواجب كما ربما یؤیّده ما یدلّ على العلوم الحادثة له سبحانه، كقوله: «لِیَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ»،(4) وقوله «وَلَنَبْلُوَنَّکُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِینَ مِنْکُمْ وَ الصَّابِرِینَ»،(5) وقوله: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْکُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِیکُمْ ضَعْفاً»(6) إلى غیر


1. راجع: نفس المصدر: ذیل الصفحة 165.

2. سورة الأنعام، الآیة 59.

3. سورة طه، الآیة 52.

4. سورة الجنّ، الآیة 28.

5. سورة محمّد (ص)، الآیة 31.

6. سورة الأنفال، الآیة 66.

ذلك، أقول: كون هذه كلّها علوماً للواجب لا یعنی أنّها تزید فی علمه شیئاً، تعالى عن ذلك علوّاً كبیراً، بل إنّما هی أظلال لعلمه الذاتیّ، واتّصافه بها إنّما هو من قبیل اتّصافه بالصفات الفعلیّة التی مرّ شرحها تحت الرقم: (430).

434 ـ قوله «ویتفرّع أیضاً...»

الظاهر أنّ السمیع والبصیر بمفهومیهما لیسا من الصفات الذاتیّة، فإنّ مفهوم السمع غیر مفهوم العلم بالمسموع ممّا یصدق قبل وجود المسموع، وكذا الإبصار، فهما من الصفات الفعلیّة التی تنتزع عند وجود صوت یُسمع ولون یُبصَر، كقوله تعالى: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِی تُجَادِلُکَ فِی زَوْجِهَا وَتَشْتَکِی إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ یَسْمَعُ تَحَاوُرَکُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِیعٌ بَصِیرٌ»(1) وقوله تعالى: «إِنَّنِی مَعَکُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‌»(2) إلى غیر ذلك. ولیس فی النصوص ما یدلّ على كونهما من الصفات الذاتیّة، ولو وجد ما ظاهره ذلك أمكن إرجاعه إلى العلم، بل كان الأولى إرجاعه إلى القدرة، كما أنّ ما یدلّ على كونه تعالى خالقاً قبل أن یَخلق یفسَّر بقدرته على الخلق. على أنّ إرجاعهما إلى العلم أو القدرة لا یعنی إثبات صفتین اُخریین فی مقام الذات، بل معناه أنّ العلم یسمّى سمعاً باعتبار تعلّقه بنوع خاصّ من المعلومات، وإبصاراً باعتبار تعلّقه بنوع آخر، أو یعتبر من حیث قدرته على خلق المسموعات والمبصرات حاضرةً عنده معلومةً له سمیعاً بصیراً بمعنى القادر على السمع والإبصار.

435 ـ قوله «وفیه أوّلاً أنّ قوله بحضور المادّیات...»

بل ینبغی أن یعتبر هذا نقطةَ قوّةٍ فی قوله، فراجع الرقم (353 و 385 و 432).


1. الآیة الأولى من سورة المجادلة.

2. سورة طه، الآیة 46.

436 ـ قوله «العاشر ما نسب إلى الصوفیّة...»

قال صدر المتألّهین: «وأمّا ما نقل عن هؤلاء الأعلام من الصوفیّة فیرد على ظاهره ما یرد على مذهب المعتزلة، فإنّ ثبوت المعدوم مجرّداً عن الوجود أمر واضح الفساد، سواء نُسب إلى الأعیان أو إلى الأذهان ـ إلى أن قال ـ مع أنّ ظواهر أقوالهم بحسب النظر الجلیل لیست فی السخافة والبطلان ونُبوّ العقل عنها بأقلَّ من كلام المعتزلة فیهما».(1) لكنّه قام بتأویل كلامهم إلى ما ینطبق على مذهبه.(2)

الفصل الثانی عشر

437 ـ قوله «أمّا العنایة...»

أصل هذا الاصطلاح هو لأتباع المشّائین، حیث اعتبروا فاعلیّة الواجب تعالى بالعنایة، یَعنونَ أنّ نفس علمه كافٍ فی صدور أفعاله عنه بلا حاجة إلى قصد وداع زائدین على ذاته. لكنّهم لمّا كانوا یعتبرون علمه بما سواه حصولیّاً، وكان هذا المذهب فی علمه غیرَ مرضیّ عند الإشراقیّین أنكر صاحب الإشراق العنایة بهذا المعنى، وقال: «وأمّا العنایة فلا حاصل لها، وأمّا النظام فلزم من عجیب الترتیب والنسب اللازمة عن المفارقات وأضوائها المنعكسة كما مضى. وهذه العنایة ممّا كانوا یُبطلون بها قواعد أصحاب الحقائق النوریّة ذوات الطلسمات، وهی فی نفسها غیر صحیحة».(3)

وقال صدر المتألّهین: «وأمّا العنایة فقد أنكرها أتباع الإشراقیّین، وأثبتها أتباع


1. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌182ـ183.

2. نفس المصدر: ص‌‌280ـ289.

3. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌153.

المشّائین كالشیخ الرئیس ومن یحذوحذوه، لكنّها عندهم صور زائدة على ذاته على وجه العروض، وقد علمت ما فیه».

ثمّ قام بتفسیر لها بحیث ینطبق على مذهبه فی علم الواجب تعالى، فقال: «والحقّ أنّها عِلمُه بالأشیاء فی مرتبة ذاته علماً مقدّساً عن شوب الإمكان والتركیب، فهی عبارة عن وجوده بحیث تنكشف له الموجودات الواقعة فی عالم الإمكان على نظام أتمَّ، مؤدّیاً إلى وجودها فی الخارج مطابقاً له، أتمَّ تأدیةٍ لا على وجه القصد والرویّة. وهی علم بسیط واجب لذاته، قائم بذاته، خلاّق للعلوم التفصیلیّة العقلیّة والنفسیّة، على أنّها عنه لا على أنّها فیه».(1) وستأتی تتمة الكلام فی الفصل السادس عشر.

438 ـ قوله «وأمّا القضاء...»

كأنّ الأصل فی معنى القضاء هو الإتمام، قال تعالى حكایة عن قول موسى لشعیب(علیهما‌السلام) «أَیَّمَا الْأَجَلَیْنِ قَضَیْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَیَّ»،(2) ثمّ اعتبُر إتمامُ القاضی للمشاجرة وفیصلتُه للمخاصمة قضاءاً. والقضاء الالهیّ هو إتمام مراحل تحقّق الفعل. قال سبحانه: «إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ‌».(3) وهذا الإتمام قد یكون باعتبار الوجود العینّی، فیسمّى قضاءاً عینیاً،(4) وینطبق على مرحلة الإیجاب التی یعتبرها العقل قبل تحقّق الوجود الإمكانیّ، حیث یَعتبر الممكنَ محتاجاً إلى العّلة، فتوجبه، فتجب، فتوجده، فتوجَد. وینطبق الإیجادُ على قوله «كن» ووجودُه على قوله: «فیكون». وقد یكون باعتبار الوجود العلمیّ، فینطبق


1. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌291؛ والمبدء والمعاد: ص‌‌124.

2. سورة القصص، الآیة 28.

3. سورة آل عمران، الآیة 47.

4. راجع: القبسات: ص‌‌420421؛ والأسفار: ج‌2، ص‌‌50.

على علم الواجب تعالى بوقوع الشیء على ما هو علیه فی ظرف وجوده، وقوعاً واجباً بإیجاب علّته التامّة. وقد مرّ أنّ لعلمه سبحانه مراتبَ منها ما ینطبق على الوسائط النوریّة التی یُسمَّى بعضها بالكتاب المبین والكتاب المكنون وأمّ الكتاب واللوح المحفوظ. فثبوت الحوادث فی ذلك الوعاء الرفیع ثبوتاً علمیّاً مطابقاً لما یوجد فی الخارج یصحّ اعتباره قضاءاً علمیّاً إلهیّاً سابقاً على الأشیاء.(1)

فالقضاء بهذا المعنى ینتزع عن مقام الفعل، أی مقام وجود المفارقات، كما أنّ القضاء بالمعنى العینیّ أیضاً ینتزع عن مقام الفعل، أی مقام وجود الكائنات. وأمّا إرجاع القضاء إلى العلم الذاتیّ فإنّه وإن كان فی حدّ نفسه معنى صحیحاً إلاّ أنّه لا ینطبق على ما ورد فی الكتاب والسنّة، فلا موجب له فضلاً عن القول بحصر القضاء فیه،(2) فتدبّر.

وجدیر بالذكر أنّه نسب القضاء إلیه سبحانه فی كتابه العزیز بوجوه اُخرى لا صلةَ لها بهذا المبحث كالقضاء بین العباد یوم القیامة، كما فی قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّکَ یَقْضِی بَیْنَهُمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ فِیمَا کَانُوا فِیهِ یَخْتَلِفُونَ‌»(3) وكالقضاء التشریعىّ والحكم الإلزامیّ المؤكّد، كما فی قوله تعالى: «وَقَضَى رَبُّکَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِیَّاهُ وَبِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَاناً».(4) وقد یُضمَّن معنى الوحی ونحوه، كما فی قوله تعالى: «وَقَضَیْنَا إِلَى بَنِی إِسْرَائِیلَ فِی الْکِتَابِ»،(5) إلى غیر ذلك.


1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة العاشرة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: الفصل الخامس عشر من الفنّ الثالث من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: النمط السابع من الإشارات؛ وراجع: المبدء والمعاد: لصدر المتألّهین، ص‌‌125.

2. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌292.

3. سورة یونس، الآیة 93.

4. سورة الإسراء، الآیة 23.

5. سورة الإسراء، الآیة 4.

439 ـ قوله «ومن هنا یظهر ضعف...»

یعنی ضعف كلّ من القولین لأجل حصره القضاء فی أحد قسمیه. وقد عرفت أنّ القول المشهور هو الأوفق بظواهر الكتاب والسنّة.

440 ـ قوله «وأمّا القدر...»

القدر ـ بإسكان الدال وفتحها ـ هو مبلغ الشیء وحدُّه، ویستعملان كمصدرین بمعنى قیاس الحدّ وتعیینه، كالتقدیر. فالقدر أیضاً على نوعین: قدر عینیّ هو تحدُّد الشیء بحدود خاصّة لأجل ما یوجبها من العلل والأسباب، وقدر علمیّ هو تحدّده فی ظرف العلم، ولهذا یعتبر سابقاً على وجوده.

وأمّا الفرق بین القضاء والقدر فقد قال السیّد الداماد بشأنه: «القضاء نسبة فاعلیّة البارئ الحقّ سبحانه على حسب علمه وعنایته إلى الإنسان الكبیر فی مرتبة شخصیّته الوحدانیّة الجُملیّة، والقدر نسبة فاعلیّته سبحانه إلى هذا الإنسان الكبیر فی مرتبة تشریح أعضائه وأجزائه، وتفصیل أخلاطه وأركانه وأرواحه وقواه، بحسب تأدیة الأسباب المترتّبة المتأدّیة إلى خصوصیّات تفاصیلها».(1)

وقال صدر المتألّهین بعد تفسیر القضاء بصورة علم الله تعالى القدیمة بالذات: «وأمّا القدر فهو عبارة عن وجود صور الموجودات فی العالم النفسیّ السماویّ على الوجه الجزئیّ، مطابقةً لما فی موادّها الخارجیّة الشخصیّة، مستندةً إلى أسبابها وعللها، واجبةً بها، لازمةً لأوقاتها المعیّنة وأمكنتها المخصوصة، ویشملها القضاء شمولَ العنایة للقضاء».(2)

ویظهر من كلام سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) أنّ القضاء هو العلم بالنسبة الوجوبیة للشیء


1. راجع: القبسات: ص‌‌418 و 416 و 421423.

2. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌292ـ293.

إلى فاعله التامّ، والقدر هو العلم بنسبته الإمكانیّة إلى السبب الناقص، وقد صرّح به فی موارد اُخرى. ویتفرّع علیه أنّ القضاء لا یتغیّر بخلاف القدر، كما هو مقتضى نسبة القضاء إلى اللوح المحفوظ، ونسبة القدر إلى لوح المحو والإثبات. ولا ریب أنّ التغیّر إنّما یتصوّر فی المادّیات، وهذا یوجب اختصاص القدر بها، بخلاف القضاء حیث عمّموه إلى المجرّدات أیضاً. وجدیر بالذكر أنّ القضاء والقدر قد یستعملان كمترادفین، ویعتبران نوعین: حتمیّ، وغیر حتمیّ. فما ورد من إمكان التغیّر فی القضاء الإلهیّ یحمل على هذا المعنى.

441 ـ قوله «وغرضهم من عقد هذا البحث...»

كثیراً ما ینقدح سؤال بشأن القضاء والقدر، هو أنّه ما هو السرّ فی طرح هذه المسألة والتأكید على ثبوتهما ولزوم الاعتقاد بهما مع ما تثور حولها من شبهات؟ ومن جهة اُخرىفقد ورد النهی عن الخوض فیهامن أئمّةالدین(علیهم‌السلام) ووصفوهاببحرعمیق لا یأمن من ولجه، وطریق وَعِرٍ لا یسلم من سلكه، وسرّ الله الذی لا ینبغی تكلّف كشفه!

والجواب أنّ معرفة التوحید الأفعالیّ هی من أشرف المعارف وأنفعها وأعزّها، ولفهمه الصحیح والاعتقاد به تأثیر بالغ فی كمال الإیمان وقیمة العمل ممّا یؤدّی إلى رقیّ الروح والوصول إلى السعادة المنشودة. والمعارف التی اُشیر إلیها فی الكتاب والسنّة من إناطة جمیع الحوادث وحتّى الأفعال الاختیاریّة بإذن الله تعالى ومشیّته وإرادته وقدره وقضائه هی فی الواقع تعالیم متدرّجة للهدایة إلى التوحید الأفعالیّ، وفوقه التوحید الصفاتیّ والذاتیّ بالمعنى الدقیق الذی لا یتیسّر نیله لكلّ أحد. وأمّا النهی عن خوض هذه اللجج فإنّما هو لرعایة الضعفاء لئلاّ یقعوا فی ورطات الجبر والاستخذاء والكسل واللامبالاة، بل الكفر والإلحاد ممّا هو قرّة عیون شیاطین الإنس والجنّ، أعاذنا الله تعالى.

الفصل الثالث عشر

442 ـ قوله «فی قدرته تعالى»

قد مرّ فی خاتمة المرحلة التاسعة أنّ القوّة أعمَّ مورداً من القدرة، فالقوّة تُستعمل فی مورد الفعل وفی مورد الانفعال معاً بخلاف القدرة فإنّها تختصّ بالفعل. ثمّ القوّة الفعلیّة أعمُّ مورداً من القدرة أیضاً لشمولها للقوى الطبیعیّة وغیرها بخلاف القدرة حیث تختصّ بمبدئیّة الفاعل الحیّ، ویشترط فیها كون الفاعل عالماً بفعله علماً مؤثّراً فی صدور فعله عنه. ولمّا كان فعل كلّ نوع من الفواعل إنّما یمتاز بأنّه كمال مسانخ لذلك النوع فالفاعل العلمیّ إنّما یفعل فعله إذا علم بما هو كمال وخیر له بما أنّه فاعل لذلك الفعل فیختاره. ومثل هذه المبدئیّة للفعل یسمّى قدرة.

ثمّ إنّ للقدرة مصادیقَ مختلفةً حسب اختلاف مراتب الفواعل فی الوجود، فإذا كانت لبعض مصادیقها لوازمُ وتوابعُ تلحق الفاعلَ لأجل ما تقتضیه نوعیّتُه فلیس یعنی ذلك وجوبَ مثل هذه اللواحق فی جمیع المصادیق. فإنّ لذوی النفوس المتعلّقة بالمادّة خصائصَ لا توجد فی غیرها من الفواعل ذوی القدرة، لأنّ تلك الخصائص إنّما تلزم لضعف مرتبة وجودها، ولیست من شأن ما هو أقوى وجوداً منها. وذلك كما فی الإنسان مثلاً، حیث یتوقّف فعله الاختیاریّ على التصوّر والتصدیق والشوق والإرادة. فهذه المبادئ إنّما تتحقّق فیه لأجل كونه ذا نفس متعلّقة بالمادّة، وأمّا المجرّد التامّ فعلمه حضوریّ ولیس من قبیل التصوّر والتصدیق، كما أنّه منزّه عن الكیف النفسانیّ والشوق إلى ما یفقده.

والحاصل أنّ حقیقة القدرة هی المبدئیّة للفعل الملازمة للعلم والاختیار، وهی متحقّقة فی الواجب تعالى على ما یلیق بساحة قدسه، فعلمه لیس أمراً زائداً على ذاته كما سبق تحقیقه، كما أنّ اختیاره لیس بحدوث إرادة فی ذاته سبحانه.

وههنا تلتقی مسألة القدرة ومسألة الإرادة، وتُثار تساؤلات حول إرادة الواجب واختیاره، مثل أنّه إذا لم یكن اختیاره بحدوث الإرادة فی ذاته فما هی حقیقة اختیاره؟ وهل له إرادة غیر الكیفیّة العارضة للذات؟ وعلى فرض الثبوت فهل هی عین ذاته أو أمر خارج عن الذات؟

وقد اختلفت كلمات المتكلّمین والفلاسفة فی الإجابة على هذه الأسئلة،(1) كقول الأشاعرة بالإرادة القدیمة الملازمة للذات، وقول المعتزلة بحدوث الإرادة له وتجدّدها، وقول الفلاسفة برجوع إرادته الذاتیّة إلى العلم بالنظام الأصلح، إلی غیر ذلك ممّا أدّى إلى مشاجرات عنیفة، واتّهامات قاسیة. فالمتكلّمون اتّهموا الفلاسفة بإنكار اختیار الواجب وإیجابه فی أفعاله سبحانه،(2) والفلاسفة اتّهموهم بالتجسیم والتشبیه ونسبة صفات الممكنات والمادّیات إلیه تعالى. فلْنلبث فی هذا الموقف یسیراً، لعلّنا نجد فی ما آنسْنا من الحقّ تیسیراً، ونحصل فی المسألة على ما هو أحسن تفسیراً، ولْنُشِرْ كمقدمّة للكلام إلى نُقاوة ما ذكرنا تحت الرقم (181) فی تفسیر الإرادة والاختیار:

أمّا الإرادة فقد تستعمل بمعنى الحبّ، وقد تستعمل بمعنى إجماع العزم المسبوق بالعلم والشوق، وهی التی یعبَّر عنها بالقصد، ویختصّ بالفاعل بالقصد الذی مرّ توضیحه فی الفصل السابع من المرحلة الثامنة. وقد تستعمل بمعنى طلب الفعل من الغیر، وتسمّى بالإرادة التشریعیّة. ولعلّ نكتة الاشتراك بین هذه المعانی هی وجود الحبّ فی جمیع الموارد، وإن لم یكن الاشتراك معنویّاً.

ثمّ الإرادة بالمعنى الأوّل هی حقیقة وجودیّة تشترك بین الواجب والممكنات


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌307ـ368 و 379413؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌2، ص‌‌485-493؛ والقبسات: ص‌‌311ـ313.

2. راجع: القبسات: ص‌‌444-447؛ وراجع: التعلیقات: ص‌‌5054 و 6162 و 71ـ72.

على اختلاف مراتبها كالعلم والقدرة وغیرهما، ویكون ما یوجد منها فی ذوی النفوس ذا مهیّة من قبیل الكیف النفسانیّ، بل یصحّ اعتبار بعض مصادیقه جوهراً، فإنّ حبّ النفس كالعلم بالنفس هو عین ذاتها، كما أنّ حبّ المفارقات هو عین جواهرها، وحبّ الواجب تعالى لذاته المستتبع لحبّ آثاره من حیث خیریّتها هو عین ذاته المقدّسة. وأمّا بالمعنى الثانی فالمشهور أنّها من أنواع الكیف النفسانىّ، لكن لا یبعد كونها فعلاً نفسانیّاً، فیكون قیامها بالنفس قیاماً صدوریّاً، وفاعلیّة النفس لها بالتجلّی. وأمّا بالمعنى الثالث فهو خارج عن محلّ البحث.

وأمّا الاختیار فقد یستعمل مرادفاً للإرادة بالمعنى الثانی، وقد یستعمل بمعنى أخصَّ وهو انتخاب أحد أمرین مطلوبین فی حدّ أنفسهما على الآخر، ویختصّ بما إذا كان للفاعل مطلوبان أو مطلوبات متزاحمة، كما فی الإنسان الذی یتردّد أمره بین إشباع نفسه وإشباع ولده، وبین إرضاء نفسه بمعصیة ربّه وإرضاء ربّه بمخالفة هواه. وقد یستعمل فی مقابل الإكراه، فیختصّ بما إذا كان انتخاب الفاعل للفعل من قِبل نفسه من دون إكراه وتهدید من الغیر. وقد یستعمل فی مقابل الاضطرار الذی ربما یتّفق للإنسان مثلاً حینما ینحصر حفظ نفسه فی طریق غیر مرضیّ كأكل المیتة لإبقاء الحیاة. وقد یستعمل فی مقابل الإجبار الذی یحصل من ضغط العامل الخارجیّ بحیث لا یُبقی له مجالاً للانتخاب مطلقاً. وهذا المعنى یتحقّق فی الفاعل بالقصد وبالعنایة وبالرضا وبالتجلّی، لأنّ أفعال هذه الفواعل إنّما تتعیّن من قِبل أنفسهم وتنتشیء من حبّهم ورضاهم أو قصدهم وعنایتهم، لا من تحمیل وإجبار من الغیر. وبعد اتّضاح هذه المقدّمة نقول:

لا ریب فی ثبوت الاختیار للواجب تعالى بالمعنى الأخیر، سواء قلنا بأنّ فاعلیّته هی بالتجلّی أو بالرضا أو بالعنایة. وحتّى لو صحّ القول بكون فاعلیّته بالقصد كان معناه ثبوت الاختیار له. لكنّ الحقّ أنّه فاعل بالتجلّی، وهو الذی یكون فعله عن

حبّه لذاته وعلمه التفصیلیّ فی مقام ذاته ویكون فعله قائماً به كربط محض لا استقلال له مطلقاً. والحاصل أنّه لا یفرض هناك ما یورد ضغطاً على الواجب لیقوم بالفعل، حتّى أنّه لیس فی ذاته تعدّد جهات وحیثیّات وقوى متزاحمة فی التأثیر. فهذا أتمُّ مراتب الاختیار وأكملها وأشرفها، ویلیه اختیار المفارقات المحضة، ثمّ اختیار النفوس، وهو أضعف مراتب الاختیار.

ثمّ ما كان من أفعال ذوی النفوس من قبیل التجلّی أو شبیهاً به كالإرادة كان أتمَّها فی الاختیاریّة ـ بالعكس ممّا ربما یتوهّم أنّ الإرادة إذا لم تكن مسبوقة بإرادة اُخرى كانت جبریّة ـ ویلیه ما كان من قبیل الفعل بالرضا كالتصوّرات الذهنیّة، ویلیه ما كان بالقصد كأفعال الجوارح، وهی أضعفها فی الاختیاریّة، لتوقّفها على اُمور غیر اختیاریّة كثیرة.

وأمّا الاختیار فی مقابل الإكراه والاضطرار ونحوهما فهو أیضاً صادق فی الواجب تعالى لاستحالة انفعاله من غیره إطلاقاً. وأمّا الاختیار بالمعنى الأوّل فیتّضح بتوضیح معنى إرادته سبحانه.

أمّا إرادة الواجب سبحانه فإن اُرید بها المعنى الأوّل المرادف للحبّ فهی ثابتة فی ذاته تعالى كسائر الصفات الذاتیّة بلا تعدّد جهة وحیثیّة، وقد صرّح بذلك أساطین الحكمة. قال الشیخ: «فالواجب الوجود الذی هو فی غایة الكمال والجمال والبهاء الذی یعقل ذاته بتلك الغایة والبهاء والجمال وبتمام التعقّل وبتعقّل العاقل والمعقول على أنّهما واحد بالحقیقة یكون ذاته لذاته أعظمَ عاشق ومعشوق، وأعظمَ لاذّ وملتذّ».(1) وقال أیضاً: «بل هو عالم بكیفیّة نظام الخیر فی الوجود وأنّه عنه، وعالم بأنّ هذه العالمیّة یَفیض عنها الوجود على الترتیب الذی یعقله خیراً ونظاماً، وعاشق ذاته التی هی مبدء كلّ نظام خیر من حیث هو كذلك، فیصیر نظام


1. راجع: أواخر المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء؛ والنجاة: ص‌‌245.

الخیر معشوقاً له بالعرض، لكنّه لا یتحرّك إلى ذلك عن شوق، فإنّه لا ینفعل منه البتّة، ولا یشتاق شیئاً ولا یطلبه. فهذه إرادته الخالیة عن نقص یجلبه شوق وإزعاج، قصداً إلى غرض».(1)

وقال صدر المتألّهین: «الإرادة والمحبّة معنى واحد كالعلم، وهی فی الواجب تعالى عین ذاته، وهی بعینها عین الداعی، وفی غیره ربما تكون صفة زائدة علیه وتكون غیرَ القدرة وغیرَ الداعی كما فی الإنسان ـ إلى أن قال ـ فهذه الثلاثة ـ أعنی القدرة والإرادة والداعی ـ متعدّدة فی الإنسان بالقیاس إلى بعض أفعاله، متّحدة فی حقّ البارئ سبحانه، وكلّها فیه عین الذات الأحدیّة، وفی الإنسان صفات زائدة علیه».(2)

وأمّا الإرادة بمعنى إجماع العزم فإن قیل بأنّها كیفیّة فلا یمكن فرضها فی ذات الواجب تبارك وتعالى، لما یترتّب علیه من توالی فاسدة جدّاً، كتركّب الذات وكونه ذا مهیّة، والتغیّر فی ذاته المستلزم لكونها مادّیّة ذات قوى واستعدادات، إلى غیر ذلك. وإن قیل بأنها فعل صادر من النفس فهی فی الحقیقة خارجة عن ذات الفاعل، فاتصافه سبحانه بها یكون من قبیل اتّصافه بالصفات الفعلیّة. وعلى هذا المعنى یحمل ما ورد من استناد الإرادة إلیه كأمر حادث، كقوله تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ‌».(3)

والحاصل أنّ إسناد الإرادة إلى الواجب یكون على وجهین: أحدهما كصفة ذاتیّة أزلیّة، وهی حبّه الذاتیّ لذاته ولآثاره من حیث خیریّتها. ثانیهما كصفة فعلیّة حادثة، وهی معنى منتزع عن مقام الفعل، بالنظر إلى أنّ صدوره لیس جبریّاً عن كره، بل له منشأ فی ذاته تعالى هو حبّه للخیر وعلمه بوجه خیریّته.


1. راجع: الفصل السابع من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌341؛ وراجع: القبسات: ص‌‌322ـ323.

3. سورة یس، الآیة 82.

وقد تبیّن بذلك أوّلا أنّ الإرادة التی ینفیها الحكماء عن الواجب تعالى هی الكیفیّة الحادثة الحالّة فی ذاته. والمشهور عندهم إرجاع الإرادة الذاتیّة إلى العلم بالأصلح، وقد صرّح الشیخ بوحدتهما مفهوماً فی مورد الواجب تعالى، حیث قال: «لیست الإرادة مغایرة الذات لعلمه، ولا مغایرة المفهوم لعلمه».(1) ولهذا ناقش فیه سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) بأنّه أشبه بالتسمیة، والأولى إرجاعها إلى الحبّ، فإنّه أوفق باللغة والعرف، وهو مقتضى كلامه فی مواضع اُخرى.(2) وأمّا إسناد المتكلّمین القولَ بكون الواجب فاعلاً موجَباً إلى الفلاسفة فهو لأجل زعمهم إنحصارَ الاختیار فی الفاعل بالقصد الذی یكون قصده وإرادته زائداً على ذاته، وقد عرفت أنّ أعلى مراتب الاختیار هو للفاعل بالتجلیّ ثم بالرضا ثمّ بالعنایة.

وثانیا أنّ استعمال الإرادة فی مورد الواجب تبارك وتعالى كصفة فعلیّة منتزعةٍ عن مقام الفعل استعمالٌ حقیقیٌّ على حدّ ما للخالق والرازق وغیرهما من الحقیقة. وأمّا إسناد الغضب والأسف ونحوهما إلیه سبحانه فله شأن آخر، وفرض مجازیّة هذه الاستعمالات لا یوجب كون جمیع الصفات الفعلیّة مجازیّة. اللّهمّ إلاّ أن یقال: نفس استعمال هذه اللفظة الموضوعة لكیف نفسانیّ فی معنى انتزاعیّ یكون مجازیّاً، لكن لأحدٍ منعُ هذا الوضع الانحصاریّ، فلیتأمّل.

وثالثا أنّ استعمال الإرادة كصفة فعلیّة لا تنفی صحّة استعمالها كصفة ذاتیّة، ووزان ذلك وزان استعمال الخالق كصفة فعلیّة واستعماله بمعنى مبدء الخلق الراجع إلى القدرة الذاتیّة، بل وزان العلم المستعمل على وجهین، كما مرّ تحت الرقم (433).


1. راجع: الفصل السابع من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: التعلیقـات: ص‌‌157ـ160؛ وراجع: الأسفـار: ج‌6، ص‌‌341 و 351 و 415؛ وراجع: المبـدء والمعـاد، ص‌‌135.

الفصل الرابع عشر

443 ـ قوله «وهو المعنْوَنُ عنه بشمول إرادته للأفعال»

الغرض الأصلیّ من هذا الفصل هو تبیین نسبة أفعال الإنسان الاختیاریّة إلى الواجب تبارك وتعالى، وكیفیّة تعلّق إرادته بها، وحلّ مسألة الجبر والتفویض والأمر بین الأمرین.

ولهذه المسألة أبعاد متعدّدة كالجبر الطبیعیّ والجبر الاجتماعیّ والجبر الفلسفی(1) والجبر الإلهیّ. ثمّ الجبر الإلهیّ یتصوّر على وجهین: أحدهما من جهة علمه تعالى، حیث یُتوهَّم أنّ اختیار الإنسان فی فعله ینافی سبق علمه تعالى بما یصدر عنه، لأنّ مقتضى الاختیار كون تعیّن الفعل أو الترك مستنداً إلى إرادة الفاعل، فیلزم أن یكون الفعل بصرف النظر عن إرادته متساوی الطرفین، مع أنّ علمه تعالى قد عیّنه سابقاً، ویمتنع وقوع الفعل على خلافه، لاستلزام ذلك كون علمه تعالى جهلاً!(2) وقد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (239) وستأتی الإشارة إلیه فی آخِر هذا الفصل.

وثانیهما من جهة إرادته تعالى، حیث یُتوهَّم أنّه إذا صحّ شمول إرادته لأفعالنا لزم كونها جبریّة، وإلاّ جاز تخلّف المراد عن إرادته تعالى، وهو محال، لاستلزامه سلب قدرته على إنفاذ إرادته. ولهذا التزم الأشاعرة بالجبر ـ على ما حكی عنهم ـ وذهب المعتزلة إلى خروج أفعالنا الاختیاریّة عن نطاق إرادته سبحانه والتزموا بالتفویض، وهو ینافی التوحید الأفعالیّ. وذهب أصحابنا الإمامیّة تبعاً لأئمّتهم(علیهم‌السلام) إلى الأمر بین الأمرین، لكن اختلفت كلماتهم فی تبیین ذلك.

وكان الفلاسفة قبل صدر المتألّهین یبیّنون ذلك على أساس أنّ الفعل معلول


1. راجع: فی ما یتعلّق بالجبر الفلسفیّ الفصل الخامس من المرحلة الرابعة، والفصل الثالث من المرحلة الثامنة.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌135ـ136؛ وج6: ص‌‌384ـ385.

للإنسان، والإنسان معلول لله تبارك وتعالى، ومعلول المعلول معلول لعلّته، ففعل الإنسان معلول وفعل لله تعالى أیضاً. وبعبارة اُخرى: إرادته تعالى تعلّقت بوجود الإنسان بشؤونه كلّها، ومن تلك الشؤون إرادته واختیاره. وإرادة الإنسان تتعلّق بفعله، ففعله متعلّق لإرادة الله سبحانه بوساطة إرادته التی هی من شؤون وجوده. وحیث كانت إحدى الإرادتین فی طول الاُخرى لم یمتنع استناد الفعل إلیهما، بخلاف ما لو كانتا مجتمعتین فی عرض واحد، حیث كان یلزم اجتماع علّتین على معلول واحد شخصیّ.

لكن كان لهذا البیان قصور من جهة أنّ اُصولهم ما كانت تفی بإیضاح علاقة العلّیة بحیث یتبیّن عدم استقلال الإنسان فی وجوده وفی إرادته، ولهذا كان له میل إلى مذهب المعتزلة. إلى أن قام صدر المتألّهین بإیضاح تلك العلاقة، وأنّ المعلول ربط محض بعلّته المفیضة لا استقلال له دونها بوجه من الوجوه. فعلى ضوء ذلك وجدت المسألة تبییناً فلسفیّاً متقناً ناضجاً وافیاً، وهو من أروع ثمرات الفلسفة الإسلامیّة التی یَنَعَتْ بفضل مساعی هذا الحكیم المتألّه العظیم. وقد أوصى بالتأمّل فی أفعال النفس للاستعانة بها على فهم هذا المطلب الشریف.(1)

وجدیر بالذكر أنّ نطاق القدرة أوسع من نطاق الإرادة، لأنّ مفهوم القدرة یشمل كلَّ ما أمكن وجوده، لكنّ الإرادة تختصّ بما یوجد فقط بما أنّه خیر حقیقیّ أو مظنون. وأفعال الإنسان الاختیاریّة وإن لم یكن جمیعها خیراتٍ حقیقیّة، إلاّ أنّها من حیث استنادها إلى إرادة الله تعالى توصف بالخیریّة، لأنّها تابعة لوجود الفاعل المختار الذی هو خیر فی مجموع النظام الأحسن، وسیتضّح ذلك فی الفصل الثامن عشر.


1. راجع: نفس المصدر: ج‌6، ص‌‌369ـ379 .

444 ـ قوله «قیام العرض بموضوعه»

نفس كون الإنسان موضوعاً لأعراضه لا یصحّح فاعلیّته لها فضلاً عن استنادها إلى إرادته واختیاره. والمراد أنّ أفعال الإنسان المباشرة قائمةٌ به كقیام العرض بموضوعة، فلا محالة تستند إلیه استنادَ أفعالِ كلّ نوع إلى صورته النوعیّة بالنظر إلى ما مرّ من أنّ الأعراض معلولة لصور موضوعاتها النوعیّة، فافهم.

445 ـ قوله «وأمّا قولهم إنّ كون الأفعال...»

هذا الإشكال یضاهی الإشكال على تعلّق القضاء الإلهیّ بالشرور، بل هو هو نفسه، فیدفع بمثل ما یوجّه به دخول الشرور فی القضاء الإلهیّ على ما سیأتی بیانه فی الفصل الثامن عشر، وذلك بوجهین: أحدهما أنّ الشرور مقصودة بالتبع لملازمتها للخیرات المقصودة بالأصالة. وأنّما تقصد بالتبع لغلبة جهات الخیر علیها، ولو لم تقصد كذلك لزم ترك تلك الخیرات الغالبة. وثانیهما أنّ الشرّ أمر عدمیّ، وحیث لا سبیل للعدم إلى دار الوجود فالشرور ترجع إلى جهات النقص فی الموجودات. والذی یصدر من الواجب تعالى وتتعلّق به إرادته بالذات هو نظام الوجود الإمكانیّ بما یشتمل على الموجودات الناقصة، وذلك النظام هو أحسن نظام ممكن على ما یأتی بیانه فی الفصل السابع عشر فجهات النقص هی مقصودة بالعرض.

446 ـ قوله «وأیضاً قد ظهر ممّا تقدّم...»

حاصلهأنّه على القول بكون الإرادة مرجّحةً للفعلبجعله أولویَّ الحصول دون ضروریّة مع بقاء إمكان عدمه یبقى السؤال عن علّة وقوعه مع جواز العدم، فوجود مثل هذا المرجّح لا یغنیه عن العلّة المعیّنة الموجبة بحیث ینقطع السؤال عن علّة الوقوع.(1)


1. راجع: القبسات: ص‌‌314.

وحیث كانت الحاجة إلى المرجّح لأجل تعیین أحد الطرفین المتساویین فی حدّ أنفسهما تعییناً حتمیّاً ضروریّاً یمتنع معه الطرف الآخر فلو فُرضت الإرادةُ غیرَ معیّنةٍ للفعل ذاك التعیینَ لكان وقوع الفعل صدفةً من غیر حاجة إلى المرجّح. وهذا هو الذی أشار إلیه بقوله: «وأیضاً الترجیح بالإرادة...» فالوجه الثانی مترتّب على الأوّل، فافهم.

الفصل الخامس عشر

447 ـ قوله «فی حیاته تعالى»

الحیاة على ما یتحصّل من التأمّل فی مواردها معنىً یلازم العلم والقدرة،(1) ولهذا ربما یُظْنّ أنّ الحیاة هی مجموع العلم والقدرة أو معنى ینتزع منهما، ولیس كذلك لجواز الانفكاك بینها وبین كلّ واحد من العلم والقدرة فی الذهن بل فی الخارج أیضاً فی الجملة. قال صدر المتألّهین: «واعلم أنّ حیاة كلّ حیّ إنّما هی نحو وجوده، إذ الحیاة هی كون الشیء بحیث یصدر عنه الأفعال الصادرة عن الأحیاء من آثار العلم والقدرة. لكن من الأشیاء الحیّة ما یجب فیه أن یسبق هذا الكونَ كونٌ آخرُ، ومنها ما لیس یجب فیه أن یسبقه كون آخرُ. فالقسم الأوّل كالأجسام الحیّة، فإنّ كونها ذاتَ حیاةٍ إنّما یطرأ علیها بعد كونٍ آخرَ له یسبق هذا الكونَ الحیوانیَّ... وأمّا القسم الثانی فهو فی ما یخرج عن الأجسام، فإنّ ما لیس بجسم لا یمتنع فیه أن یكون وجوده بعینه هو كونه بالصفة المذكورة... وواجب الوجود أولى بأن یكون حیاته عینَ وجوده، لكونه بسیط الحقیقة».(2)


1. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌413؛ وراجع: حكمة الإشراق: ص‌‌117؛ والتعلیقات: ص117.

2. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌418.

الفصل السادس عشر

448 ـ قوله «وأمّا الكلام...»

التكلّم عبارة عن إلقاء لفظ دالّ على معنىً بالدلالة الوضعیّة الاعتباریّة لإعلام المخاطب بما فی ضمیر المتكلّم، وذلك اللفظ یسمّى كلاماً. فقوام هذا المعنى هو بالوضع والاعتبار. وربما یتوسّع فیه فیستعمل فی مطلق الإعلام ولو كان بغیر اللفظ وبغیر الدلالة الوضعیّة والاعتباریّة. وقد اُطلقت «الكلمة» فی القرآن الكریم(1) على المسیح بن مریم(علیه‌السلام) ولعلّ النكتة فیه أنّ خلقه الخارق للعادة من أحسن وجوه إعلام الخلائق بصفات الخالق. والظاهر أنّ المراد بالكلمات فی قوله تعالى: «قُلْ لَوْ کَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِکَلِمَاتِ رَبِّی لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ کَلِمَاتُ رَبِّی»(2) أیضاً الكلمات التكوینیّة المعربةُ عن صفات مكوّنها. وأمّا توسعة مفهوم الكلام بحیث یشمل صفات الله الذاتیّة، واعتبارهُ متكلّماً فی مقام ذاته واعتبار الكلام صفة ذاتیّة له، فهو خروج عن عرف المحاورة، ولیس له شاهد من الكتاب والسنّة كما نبّه علیه الاُستاذ(قدس‌سره).

449 ـ قوله «وإرجاع حقیقة معناه إلى نحو من معنى القدرة»

بل یرجع ذلك التحلیل إلى اعتبار الصفات كلّها كلاماً والذات متكلّماً.

450 ـ قوله «هذا جارٍ فی السمع والبصر»

قد مرّ تحت الرقم (434) أنّ الظاهر أنّهما من الصفات الفعلیّة، وأن لا دلیل على


1. سورة آل عمران، الآیة 39 و 45؛ وراجع: سورة النساء، الآیة 131.

2. سورة الكهف، الآیة 109؛ وراجع: سورة لقمان، الآیة 27.

اعتبارهما من الصفات الذاتیّة إلاّ ما اشتهر فی ألسنة المتكلّمین وتبعهم على ذلك بعض الفلاسفة. نعم، حكی عن صاحب الإشراق أنّ علمه راجع إلى بصره، لا أنّ بصره یرجع إلى علمه.(1) وهو مبتنٍ على ما ذهب إلیه من كون علمه التفصیلیّ عین وجود الأشیاء، وتفسیر الإبصار بالشهود، فتبصّر.

الفصل السابع عشر

451 ـ قوله «فی العنایة الإلهیّة...»

حاصل ما ذكر فی تحلیل معنى العنایة أنّها اهتمام الفاعل بفعله حتّى یتحقّق على وجه الخیر أو على أحسن وجوهه إذا كانت هناك وجوه من الخیر. لكن عنایة الإنسان وذوی النفوس بأفعالهم إنّما تكون لأجل ما یتوخَّون من منافعَ تعود إلیهم، وذلك لفقدانهم تلك المنافع والكمالات، وأمّا المجرّد التامّ فحیث إنّه واجد فی ذاته لكلّ كمال ممكن الحصول له فلا یتوخَّى منفعة من فعله. ولهذا ذهب بعض المتكلّمین كالأشاعرة إلى إنكار الغایة فی فعله تعالى، وذهب بعض آخر كالمعتزلة إلى أنّ غایته وصول الخلق إلى منافعهم ومصالحهم. وقد مرّ فی الفصل الحادی عشر من المرحلة الثامنة أنّ غایة المجرّدات هی فی الحقیقة نفس ذواتها، وأنّ منافع ما دونها مقصودة لها بالتبع.

فقوام العنایة یكون بالفاعلیّة، وعلم الفاعل، وحبّه للفعل التابع لحبّ ذاته.(2) وهذه الاُمور ثابتة فی الواجب تعالى فتثبت عنایته سبحانه بخلقه. فإذا أخذنا هذه الإضافة إلى وجود الممكنات بعین الاعتبار كانت العنایة من الصفات الإضافیّة الفعلیّة. لكن


1. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌423.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌7، ص‌‌57؛ وراجع: الرقم (437) من هذه التعلیقة.

یمكن إرجاعها إلى العلم بالأصلح أو إلى الحبّ الذاتیّ، فتعود صفةً ذاتیّة، نظیر ما مرّ فی الإرادة،(1) ومثله یجری فی الحكمة.

قال الشیخ فی التعلیقات: «العنایة هی أنّ الأوّل خیر، عاقل لذاته، عاشق لذاته، مبدء لغیره. فهو مطلوب ذاته، وكلُّ ما یصدر عنه یكون المطلوب فیه الخیرَ الذی هو ذاته. وكلُّ هذه الصفات ما لم تعتبرْ فیها هذه الاعتبارات واحدة. وكلّ من یعتنی بشیء فهو یطلب الخیر له. فالأوّل إذا كان عاشقاً لذاته لأنّه خیر، وذاته المعشوق مبدء الموجودات فإنّها تصدر عنه منتظمةً على أحسن نظام».

وقال أیضاً: «العنایة صدور الخیر عنه لذاته، لا لغرض خارج عنه فتكونَ له إرادةٌ متجدّدة. فذاته عنایة. وإذا كان ذاته عنایتَه، وذاته مبدء الموجودات، فعنایته بها تابعة لعنایته بذاته. وأیضاً إذا كان مطلوبه الخیرَ، والخیر ذاته وهو عنایته، وهو مبدء لما سواه، فعلمه بذاته أنّه خیر، مبدء لهذه الأشیاء وعنایة له بها. ولو لم یكن عاقلاً لذاته، وعاقلاً لأنّ ذاته مبدء لما سواه لَما كان یصدر عن ذاته التدبیر والنظام. وكذلك لو لم یكن عاشقاً لذاته لكان ما یصدر عنه غیرَ منتظم، لأنّه یكون كارهاً له غیر مرید له. ولیست الإرادة إلاّ أنّ الموجودات غیر منافیة لذاته. ولمّا كان عاشقاً لذاته، وكانت الأشیاء صادرة عن ذاتٍ هذه صفتها ـ أی معشوقة ـ فإنّه یلزم أن یكون ما یصدر عنه معنیّاً به، لأنّه عاشق ذاته، ومرید الخیر له».(2)

ولك أن تقول: عدم عنایة الفاعل بفعله حتّى یتحقّق على أحسن الوجوه إمّا أن یكون لأجل جهله بوجه الخیر، أو لأجل عجزه عن تحقیقه، أو لأجل عدم حبّه لكماله وعدم إرادته له، أو لأجل بخله وإمساكه واستئثار ذلك الكمال لنفسه. فكل


1. راجع: الرقم (442).

2. راجع: التعلیقات: ص‌‌157؛ والتحصیل: ص‌‌578579؛ والقبسات: ص‌‌333ـ342؛ والمباحث المشرقیة: ج‌2، ص‌‌492؛ وراجع: النمط السادس والنمط السابع من شرح الإشارات.

هذه النقائص مسلوبة عنه سبحانه، ومقابلاتها ثابتة له تعالى، فیثبت من طریق اللمّ كون العالَم على أحسن ما یمكن. قال تعالى: «الَّذِی أَحْسَنَ کُلَّ شَیْ‌ءٍ خَلَقَهُ»،(1) وقال: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِی أَتْقَنَ کُلَّ شَیْ‌ءٍ».(2)

وقد بیّن صدر المتألّهین إتقان نظام العالم ببیان إجمالیّ، ثمّ تصدّى لتفصیل ذلك من طریق اللمّ والإنّ معاً، ثمّ أخذ فی بیان آثار حكمته وعنایته تعالى فی خلق العالم فی عدّة فصول.(3)

452 ـ قوله «والمشهود من النظام...»

إشارة إلى البیان الانّی لحسن نظام العالم وإتقانه وإحكامه، ولا تزال معرفة الإنسان تزداد بجودة الخلق، وحسن النظام، وإتقان الصنع، وكمال التدبیر، ودقائق الحكمة على ضوء تقدّم العلوم التجریبیّة، ممّا لا یُبقی ریباً للناظر السلیم، فی أنّ هذا النظام القویم، صادر من خالق قادر حكیم، وربّ جواد كریم، ومدبّرٍ ناظم علیم: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَیَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِیزُ الْعَلِیمُ‌».(4)

الفصل الثامن عشر

453 ـ قوله «فی الخیر والشرّ...»

عندما تُطْرَحُ مسألة النظام الأحسن وعنایة البارئ وحكمته تعالى یثار سؤال، هو أنّه


1. سورة السجدة، الآیة 7.

2. سورة النمل، الآیة 88.

3. راجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌91ـ93 و 106ـ148؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص‌‌193ـ222؛ والقبسات: ص‌‌425-428؛ والتلویحات: ص‌‌76ـ78.

4. سورة الزخرف، الآیة 9.

إذا كان له سبحانه عنایة بخلقه وكان لازمها أن یتحقّق العالم على أحسن ما یمكن وأحكمه، فلِمَ یوجد فی العالم ما یشاهَد من الشرور الكثیرة، أعمَّ ممّا یحصل من ناحیة العوامل الطبیعیّة كالزلازل والأمراض وسائر البلایا، أو من ناحیة الأناسیّ من أنواع الظلم والمعاصی وإهلاك الحرث والنسل؟ ألم یكن من الأحسن أن یكون العالم نزیهاً عن تلك الشرور والمصائب؟

وقد ذهبت الثنویّة إلى أنّ هناك مبدأین: أحدهما للخیرات، وثانیهما للشرور، ولا یزالان یتنازعان إلى أن ینتهی الأمر بغلبة مبدء الخیر. وذهب بعض الناس إلى القول بالإرادة الجزافیّة وإنكار العنایة الإلهیّة، وذهب الملحدون إلى إنكار الخالق الحكیم وجعلوا الشرور أماراتٍ على نفی الحكمة. سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا یصفون.

وقد نهض الفلاسفة الموحّدون بالإجابة على ذلك السؤال ودفع ما یتعلّق به من الشبهات ممّا أدّى إلى جوابین: أحدهما أنّ الشرور من لوازم عالم الطبیعة، فهی مقصودة بالتبع لا بالأصالة. وثانیهما أنّ الشرّ بالذات هو العدم، وشرور هذا العالم ترجع إلى جهاتٍ عدمیّةٍ، فتكون مقصودةً بالعرض لا بالذات.

فالغرض من عقد هذا الفصل هو توضیح هذین الجوابین، وذلك بتحلیل مفهومَی الخیر والشرّ، وإثبات أنّ الشرور اُمور عدمیّة، وأنّها تختصّ بعالم المادّیات، حتّى تتمهّد الأرضیّة لبیان ذینك الجوابین. وله فوائد اُخرى تتعلّق بمبحث الغایات وغیره. وبهذا یظهر سرُّ ما أولت الفلاسفة من عنایة بهذا المبحث، فإنّ به یتبیّن بطلان مذهب الثنویّة، وتتحَّقق حكمة البارئ تعالى وعنایته بخلقه، وكون العالم على أحسن ما یمكن من النظام، وبه یجاب عن شبهات الملحدین فی أسمائه وصفاته، والمنكرین لعدله وحسن قضائه وتمام تدبیره وكمال ربوبیّته.

454 ـ قوله «الخیر ما یطلبه...»

لا ریب أنّ الخیر والشرّ متقابلان، فلا یكون شیء واحد من جهة واحدة خیراً وشرّاً معاً. فإن اعتُبرا وجودیَّینِ كانا من قبیل المتضادَّینِ ـ لوضوح عدم كونهما متضایفین ـ وإلاّ كان أحدهما عدمیّاً لا محالة. فهل هناك ما یدلّ على تعیین أحد الفرضین؟

یمكن أن یُتوهّم أنّهما أمران وجودیّان متضادّان، لاتّصاف بعض الأعیان الخارجیّة بالخیر وبعضها الآخر بالشرّ كاتّصاف الأفعال الاختیاریّة والملكات النفسانیّة بهما أیضاً. لكن بالنظر إلى أنّ الأوصاف أعمُّ ممّا بالذات وما بالعرض، وما بالأصالة وما بالتبع، ینبغی أن یُجتهد فی تحلیل معناهما والتعرّف على حقیقتهما.

وممّن لم یألُ جهداً فی هذا المضمار الشیخ الرئیس، حیث قام بفحص بالغ لمواردهما، وتحلیل عمیق لمفهومهما، وبیان جامع لحقیقتهما، ولولا مخافة التطویل لنقلنا عباراته بألفاظها، فسوف نكتفی بذكر محصَّل بیاناته:

الف) الشرّ قد یستعمل فی النقص كالجهل والضعف والعمى وغیرها من الاُمور العدمیّة. وواضح أنّه لیس لهذه الاُمور جهة وجودیّة یصحّ أن تنسب الشرّیّة إلیها حتّى یُتوهَّم أنّ الجهة العدمیّة تابعة غیر متّصفة بالشرّ بالأصالة. فلا ریب أنّ الشرّ فی هذه الموارد هو نفس الجهة العدمیّة. وقد یستعمل الشر فی الاُمور الوجودیّة المتعلّقة بالأعدام كالآلام والغموم، فإنّها وإن كانت إدراكاتٍ وجودیّةً إلاّ أنّها تتعلّق باُمور عدمیّة كفقد السلامة والمطلوبات. والإدراك بما أنّه إدراك لیس شرّاً، فالشرّ ناشیء عن متعلّقه وهو الفقد والعدم. وقد یستعمل فی مجمع الأمرین، كمن یتألّم بفقدان اتّصال عضو بحرارة ممزّقة، فیكون قد اجتمع هناك إدراكان: الألم، وإدراك الحرارة. أمّا الألم فقد اتّضح أمره، وأمّا إدراك الحرارة فلیس شرّاً بما أنّه إدراك، ولا الحرارة تكون شرّاً بما أنّها حرارة، بل بالقیاس إلى العضو المتأذّی بها. فههنا توجد جهات متعدّدة، لكنّ الشرّ یعود إلى الجهة العدمیّة فقط. ففی هذین القسمین أیضاً یكون الشرّ من النقص والعدم؛

ب) قد یتّصف الشیء بالشرّ من أوّل وجوده كتشوّه الخلق، وقد یطرأ علیه بعد ما وُجد خیراً. والأوّل حاصل من أسباب خارجة أوجبتْ فَقْدَ استعداد المادّة لما هو أكمل. فهذا الشرّ هو ناشیء عن نقص استعداد المادّة. وأمّا القسم الثانی فقد یكون لأجل مانع عن وصول الشیء إلى كماله، كمنع السُحُب المتراكمة وأظلال الجبال الشاهقة عن یَنْع الثمار، وقد یكون لأجل عامل مضادّ مفسد، كالدیدان التی تفسد الثمار. وكلاهما یرجعان إلى النقص والعدم؛

ج) الكمالات تنقسم إلى كمالات أوّلیّة بها تتحصّل نوعیّة النوع، وكمالات ثانویّة تقتضیها نوعیّة النوع وتوجد فی أكثر الأفراد، وهی قریبة من الاُولى، وكمالات اُخرى توجد فی أفراد قلیلین بعد حصول استعدادت خاصّة لها. أمّا فقد الكمالات الاُولى والثانیة فلا ریب فی شرّیّته. وأمّا ما یحصل فی بعض الأفراد فلا یعتبر فقده شرّاً بالنسبة إلى النوع كالجهل بالفلسفة والهندسة بالنسبة إلى نوع الإنسان، وإن كان شرّاً باعتبار آخر؛

د)قد یطلق الشرّ (بمعناه القیمیّ) على الأفعال المذمومة كالظلم والزنا، وهذه الشرّیّة تكون بالقیاس إلى من یفقد كماله بوصول ذلك الفعل إلیه كما فی الظلم، أو بالقیاس إلى المجتمع الذی یفقد كمالاً یجب له فی السیاسة المدنیّة كما فی الزنا، وكلاهما شرّ للنفس الناطقة التی كمالها فی كسر الشهوة والغضب. وقد یطلق الشرّ (بهذا المعنى القیمیّ) على الملكات الرذیلة باعتبار ما یلزمها من فَقْد النفس كمالاتٍ تجب لها؛

ه‍‌) لا یوجد فعل یتّصف بالشرّ من حیث وجوده وصدوره عن الفاعل بما أنّه فعله، بل بالقیاس إلى السبب القابل، أو إلى فاعل آخر یُمنع من فعله الأولى. فالشرور كلّها ترجع إلى فقد الكمال لقصور المادّة، أو لتأثیر فاعل یزیل استعدادها، أو یُفسد الكمال الحادث فیها، أو یَمنع من تأثیر فاعل آخر. وموطن هذه كلّها هو عالم المادّة الذی هو محلّ الحوادث والتزاحمات؛

و) الاُمور العدمیّة لیست من فعل فاعل، فلا تستند إلى المبادئ العالیة أیضاً إلاّ بالعرض، وأمّا الاُمور الوجودیّة التی قد تتّصف بالشرور فلها جهتان أو جهات، وإنّما تكون شرّیتها بالقیاس إلى قابل یفقد استعداداً لكمال جدید، أو لبقاء كماله الموجود، أو تكون بالقیاس إلى فاعل آخَر یُمنع من فعله الخیر. فهذه الاُمور الوجودیّة وإن كانت مستندةً إلى فواعلها وتنتهی إلى المبادئ العالیة حقیقةً لكن جهات خیرها أكثر وأغلب، فهی بما لها من الخیرات مقصودةٌ بالقصد الأوّلیّ، وبما یلزمها من النقائص والشرور مقصودةٌ بالقصد الثانی. وذلك لأنّ التضادّ فی التأثیر والتزاحم فی الحصول على الكمالات من لوازم عالم المادّة التی لا تنفكّ عنها، ولولا ذلك لم تحصل فیها كمالات جدیدة كثیرة. فالأمر یدور بین وجود هذا العالم بما فیه الخیر الكثیر والشرّ القلیل، وعدمه المستلزم لعدم الخیر الكثیر. لكن لیس من الحكمة الإلهیّة أن یترك الخیرات الفائقة الدائمة والأكثریّة لأجل شرور غیر دائمة ونادرة؛(1)

ز) إذا كان الشرّ هو عدم وجود أو عدم كمال وجود (ولا محالة یرجع إلى عدم الوجود، لأنّ الكمال أیضاً وجود) فالخیر یقابله، فهو إمّا وجود وإمّا كمال وجود. وكلّما كان الوجود أكملَ كان خیریته أفضلَ، فالوجود المجرّد أشدُّ خیریّةً من الموجود المادّیّ، والواجب الوجود هو الخیر المحض. أمّا اتّصاف العدم بالخیریّة أحیاناً فإنّما هو لأجل استتباعه وجوداً، فهو خیر بالعرض، كما أنّ اتّصاف الوجود بالشرّ كان لأجل استتباعه عدماً، وكان شرّاً بالعرض. وقد یقع الخیر وصفاً لموجود بما أنّه مفید الكمال لشیء آخر، فالواجب الوجود یكون خیراً من هذه الجهة أیضاً، لأنّه یفید كلَّ وجود وكلَّ كمال وجودیّ.(2)


1. راجع: الفصل السادس من المقالة التاسعة من إلهیّات الشفاء؛ والنجاة: ص‌‌284ـ291؛ والمباحث المشرقیة: ج‌2، ص‌‌519532؛ والأسفار: ج‌7، ص‌‌5862.

2. راجـع: الفصل السادس من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء؛ والنجـاة: ص‌‌229؛ والقبسـات: ص‌‌428 436؛ والتعلیقات: ص‌‌103.

ثمّ إنّ الشیخ عرّف الخیر بأنّه ما یتشوّقه كلُّ شیء.(1) والتشوّق إنّما یكون إلى الوجود وكمال الوجود، ولا یحصل شوق إلى عدم إلاّ باعتبار ما یلازمه أو یستتبعه من الوجود وكماله. وتبعه على ذلك صدر المتألّهین وغیره.(2) لكن حیث كان معنى التشوّق مستلزماً لفقد المتشوَّق إلیه ممّا لا یوجد إلاّ فی ذوی النفوس المتعلّقة بالموادّ، بدّله الاُستاذ(قدس‌سره) بالطلب والإرادة والحبّ. ومع ذلك فإنّه یثور ههنا سؤالان:

أحدهما أنّه هل یجب فی كلّ خیر أن یكون مطلوباً لكلّ طالب ومرید؟

وثانیهما أنّه هل یراد بالطلب والحبّ حقیقةُ معناهما ممّا لا یوجد إلاّ فی ذوی الشعور، أو یراد بهما أعمُّ من ذلك؟

أمّا السؤال الأوّل فیمكن الإجابة علیه بأنّ خیر كلّ شیء هو ما یحبّه ویكون مطلوباً له، لوضوح أنّ كمال كلّ نوع إنّما یكون مطلوباً لذلك النوع، فالكمال الخاصّ بالفرس مثلاً لیس مطلوباً لنوع آخر من الحیوان. فالمراد بتلك العبارة أنّ الوجود على اختلاف أنحائه یكون مطلوباً لكلّ طالب، لكن كلّ موجود إنّما یحبّ وجوده وكمال وجوده نفسه. ویمكن أن یكون المراد أنّ الخیر المطلق وهو الله تعالى یتشوّقه كلُّ شیء، فافهم.

وأمّا السؤال الثانی فالظاهر لزوم تأویل الحبّ والطلب إلى معنى أعمَّ كالاقتضاء مثلاً، لوضوح عدم اختصاص الخیر بذوی الشعور. ولعلّ النكتة فی التركیز على مطلوبیّة الخیر هی الإشارة إلى أصل معناه اللغویّ والعرفیّ.

توضیح ذلك أنّ الخیر والشرّ لیسا من المفاهیم الماهویّة، وإنّما هما مفهومان منتزعان عن قیاس الأشیاء بعضها ببعض. وأوّل ما یحصل فیه المقایسة للإنسان هو خیر نفسه، فما یجد فی نفسه میلاً وشوقاً حبّاً له یسمّیه خیراً، وما یجد فی نفسه


1. راجع: نفس المصدرین السابقین؛ وراجع: التعلیقات: ص‌‌72 و 77.

2. راجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌58؛ والقبسات: ص‌‌428.

كراهة ونفرة وبغضاً له یسمّیه شرّاً. فإذا أخذنا فی تحلیل هذین المعنیین نجد أنّ حقیقتهما ترجعان إلى الملاءمة والمنافرة للنفس، وإذا أمعنّا فی التحلیل وصلْنا إلى الكمال والنقص، فإنّ الملائم هو الكمال، والمنافر هو النقص. وبتدقیق أكثر نستنبط أنّ الخیر هو الوجود والشرّ هو العدم، لأنّ الكمال لا یكون إلاّ وجودیّاً، والنقص لا یكـون إلاّ عدمیّاً. فهـذان المعنیان المستنبطـان ـ وإن لم یسـاعِد علیهما العرف كلَّ المساعدة ـ قابلان للصدق على غیر ذوی الشعور أیضاً. نعم، لـو ثبت سریان العلم والحبّ والإرادة والطلب فی جمیع الموجودات لأمكن التركیز على الحبّ بمعناه الحقیقیّ فی تفسیر الخیر، فتفطّن.

455 ـ قوله «فهو عدم ذات أو عدم كمال ذات»

قد تحصّل من التحلیل الذی قام به الشیخ أنّ الشرّ قسمان: أحدهما عدمیٌّ كالجهل والعمى، وثانیهما وجودیّ یلازم أو یستتبع عدماً. وهذا القسم الأخیر إنّما یكون شرّاً بالقیاس إلى شیء آخر من جهة ما یوجب فقداً ونقصاً له. فیمكن أن یتوهّم أنّ تقابل الشرّ والخیر لیس فی جمیع الموارد على نهج واحد، فالقسم الأوّل من الشرّ یتقابل مع الخیر تقابُلَ العدم والملكة، أمّا القسم الثانی منه فیتقابل معه تقابُلَ الضدّین، لأنّهما وجودیّان، وعلى هذا فلا یصحّ أن یقال مطلقاً إنّ الشرّ عدم ذات أو عدم كمال ذات، وأن لا ذات للشرّ، بل یجب أن یعتبر لقسم من الشرور ذات.

وربما یقال فی دفع هذا التوهّم أنّ هذا القسم من الشرّ أمر إضافیٌّ ومعنى نسبیٍّ والإضافة هی من الاُمور الاعتباریّة، ولا ذات لها كما لا یتعلّق بها جعل وإیجاد.

ویلاحظ علیه أنّ هذه الإضافة لا تختصّ بالشرور، فمن الخیرات أیضاً ما هو إضافیّ، بل یمكن أن یقال إنّ الخیر والشرّ مطلقاً من المفاهیم ذات الإضافة، فإنّ الكمال إنّما یكون خیراً لما یجده، والنقص إنّما یكون شرّاً للموضوع الذی یتّصف

به، ولا یتعلّق بشیء من هذه المعانی الإضافیّة والرابطیّة جعلٌ، وإنّما یتعلّق الجعل بمنشأ الانتزاع وطرفَیْ الإضافة.

والجواب الحاسم هو بالفرق بین المعنى العرفیّ والمعنى الفلسفیّ، فإذا اعتبرنا الشرّ بمعناه العرفیّ كان له قسمان، وكان تَقابلُ أحد قسمیه مع الخیر من قبیل تقابل الضدّین، كما مرّ فی التقابل بین الألم واللذّة تحت الرقم (189). لكن بالنظر الدقیق الفلسفیّ یعتبر اتّصاف الوجود بالشرّ إتّصافاً بالعرض، وذلك بتحلیل الموجود إلى حیثیّتین أو أكثر، وإرجاع الشرّ إلى الحیثیّة العدمیّة، كما مرّ فی كلام الشیخ.

وبعبارة اُخرى: إذا ركّزنا فی معنى الخیر والشرّ على مفهومَیْ المطلوب والمنفور كان بعض الموجودات متّصفاً بالشرّ اتّصافاً حقیقیّاً، كالآلام والغموم، وهذا ما یتوافق مع عرف المحاورة. أمّا إذا أمعنّا فی التحلیل وتعقّبنا منشأ هذا الاتّصاف وجدنا أنّه فی كلّ هذه الموارد هو النقص وعدم الكمال. وبهذا الاعتبار یقال: إنّ الشرّ بالذات هو العدم، وأن لا ذات للشرّ. وهذا نظیر ما مرّ تحت الرقم: (10) أنّ اتّصاف المهیّة والكلّی الطبیعیّ بالوجود یكون بالعرض والمجاز من وجهة النظر الفلسفیّة، وإن لم یساعد علیه العرف، بل اعتبر بهذا النظر سفسطة.

456 ـ قوله «والدلیل...»

هذا الدلیل هو الذی أقامه قطب الدین الشیرازیّ فی شرح حكمة الإشراق،(1) وتبعه صدر المتألّهین.(2) وهو فی الحقیقة یهدف إلى ما أشرنا إلیه آنفاً من أنّ الشرّ بالذات من وجهة النظر الفلسفیّة هو العدم بعد قبول أنّ الشرّ مطلقاً لا ینفكّ عن العدم، فلیس مصادرةً بالمطلوب.


1. راجع: شرح حكمة الإشراق: المقالة الخامسة، ص‌‌520 (من الطبعة القدیمة).

2. راجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌59.

وحاصله أنّ الشرّ لو كان أمراً وجودیّاً لكان الشرُّ غیرَ شرّ، والتالی باطل فالمقدّم مثله. وبیان الملازمة أنّ الشرَّ لو كان أمراً وجودیّاً لكان إمّا شرّاً لنفسه أو شرّاً لغیره. والأوّل محال، لأنّ معنى كون الشیء شرّاً لنفسه هو اقتضاؤه لعدم ذاته أو لعدم كمالاته، لما مرّ أنّ الموجود الشرّ إنّما یكون شرّاً لاقتضائه عدماً مّا، ولو اقتضى شیء عدمَ ذاته لما وجد، ولو اقتضى عدم شیء من كمالاته لكان الشرّ ذلك العدم لا هو. مضافاً إلى أنّ مثل هذا الاقتضاء غیر معقول، لوضوح أنّ الأشیاء إنّما تقتضی كمالاتها لا عدم تلك الكمالات، والعنایة الإلهیّة تقتضی إیصال كلّ شیء إلى كماله. وأمّا الثانی وهو كون الأمر الوجودیّ شرّاً لغیره فإنّما یتصوّر بإفساده أو إفضاء نقص إلیه، فیعود الشرّ بالذات إلى ذلك الفساد والنقص العدمیّین، وقد فرض أنّ الشرّ بالذات هو الوجود.

457 ـ قوله «فإن قلت...»

هذا الإشكال هو الذی ذكره المحقّق الدوانیّ فی حاشیة التجرید، وحاصله أنّ الألم الذی یحصل عند قطع العضو مثلاً أمر وجودیّ، وهو شرٌّ حقیقةً وبلا تجوّز، وإذا اعتبر الانفصال الذی یرجع إلى العدم شرّاً فهو شرٌّ آخر. ثمّ قال: والتحقیق أنّهم إن أرادوا أنّ منشأ الشرّیّة هو العدم، فلا یرد النقض علیهم. وإن أرادوا أنّ الشرّ بالذات هو العدم، وما عداه إنّما یوصف به بالعرض، حتّى لا یكون بالحقیقة إلاّ شرّیّةٌ واحدةٌ هی صفة العدم بالذات، وتنسب إلى غیره بالتوسّط كما هو شأن الاتّصاف بالعرض، فهو وارد. فافهم.

وقد تعرّض صدر المتألّهین لهذا الإشكال فی موضعین من الأسفار(1) ـ كما أنّه قد تقدّمت الإشارة إلیه فی هذا الكتاب أیضاً فی الفصل الخامس عشر من المرحلة


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌126؛ وج7: ص‌‌6267.

السادسة ـ ودفَعه بعد اختیار ثانی الشقّین بما حاصله أنّ الألم هو إدراك الانفصال أو زوال السلامة أو غیرهما من الاُمور العدمیّة إدراكاً حضوریّاً، والإدراك عین المدرَك بالذات. فهو عین ذلك الأمر العدمیّ.

ویلاحظ علیه أوّلاً أنّ العدم بما أنّه عدم لیس له حضور عند النفس، ولا یتعلّق به إدراك حضوریّ، وثانیاً أنّ الألم غیر إدراك الانفصال أو أیّ أمر عدمیّ آخر. وقد مرّ أنّ اللذّة والألم لیسا عین العلم والإدراك وإن كانا من الكیفیّات الإدراكیّة، فراجع الرقم (188 ـ 189).

ثمّ إنّ المحقّق السبزواریّ بعد المناقشة فی كلام صدر المتألّهین ذكر وجهاً آخر لدفع الإشكال، وهو أنّ الألم أمر وجودیّ، لكنّه من هذه الجهة لیس شرّاً، وإنّما شرّیته ناشیءة عن عدم ملاءمته للنفس، وهو أمر عدمیٌ.(1)

والأشبه ما نبّهنا علیه تحت الرقم (455) أنّ الشرّ بمعناه العرفیّ یعمّ بعضَ الاُمور الوجودیّة كالآلام والغموم والجهل المركّب والملكات الرذیلة، وعلیه فلا مناص عن قبول الشقّ الأوّل من الشقّین اللذین ذكرهما المحقّق الدوانیّ، ویكون أحد مصادیقه الألَمَ الذی هو أمر وجودیٌّ بلا ریب، سواء كان من قبیل الإدراك أو نوعاً آخر من الكیف النفسانیّ. وأمّا معناه التحلیلیّ الفلسفیّ فینحصر فی الأمر العدمیّ، ویكون اتّصاف بعض الوجودات به اتّصافاً بالعرض، نظیر اتّصاف المهیّة بالوجود.

والحاصل أنّ الألم أمر وجودیٌّ بلا شبهة، وشرٌّ حقیقیٌ بالنظر الجلیل العرفیّ، وإنّما یكون منشأه زوالَ الراحة الذی هو نقص لكمال النفس فی مرتبتها النازلة. لكن بالنظر الدقیق الفلسفیّ یكون الألم شرّاً بالعرض، وأمّا الشرّ بالذات فهو تلك الجهة العدمیّة. فالمراد بلفظة «بالذات» فی قولهم «العدم شرّ بالذات» هو أنّ الجهة العدمیّة هی التی تتّصف أوّلاً وفی الرتبة المتقدّمة بالشرّ فی النظر التحلیلىّ العقلىّ الدقیق،


1. راجع: نفس المصدر: ج‌7، ذیل الصفحة 6267.

حیث تتمیّز جهته الوجودیّة عن جهته العدمیّة. وأمّا ما یقال «الألم شرٌّ بالذات» فهو فی مقابل اتّصاف بعض اللّذات بالشرّ من حیث استتباعها لألم أشدَّ، فتفطّن.

458 ـ قوله «ثمّ إن الشرّ لمّا كان...»

قد تحقّق أنّ الشرّ أیّاً ما كان لا ینفكّ عن جهة عدمیّة، سواء كان الأمر المتّصف بالشرّ ذا جهة واحدة هی بعینها العدمیّة كالجهل، أو كان ذا جهات وكان شرّیته راجعة إلى جهته العدمیّة، وسواء اعتبرنا نفس الجهة العدمیّة شرّاً بالذات (كما فی النظر التحلیلیّ الدقیق) أو اعتبرنا الجهة العدمیّة حیثیّةً تعلیلیّةً خارجةً عن ذات الشرّ (كما فی النظر الجلیل) وسواء كان العدم عدماً لكمال أوّل به قوام شیئیّة الشیء ویعبّر عنه بعدم الذات، أو كان عدماً لكمال ثانٍ یعبرّ عنه بعدم كمال الذات. فكلّما فرض شرٌّ كان لا محالة هناك أمر عدمّی. وهذا الأمر العدمیّ یكون عدماً لملكة هی خیر بالذات، ولابدّ من فرض موضوع یصحّ اتّصافه بهذه الملكة وبعدمها. والموضوع الخارجیّ الذی یعتبر له كمال أوّل أو كمال ثانٍ جائز الزوال لا یكون إلاّ من المادّیات، لأنّ المجرّدات ثابتة بذواتها وكمالاتها، ولا یصحّ فرض كمال جائز الزوال لها. فینتج أنّ الشرّ خاصّ بعالم المادّیات، حیث یوجد فیه تزاحم الفواعل فی التأثیر ممّا یتأدَّى إلى منع بعضها عن التأثیر فی إعداد شیء آخر لصورة جدیدة أو لكمال جدید، أو إلى فساد صورة وزوال كمال ثانٍ بعد تحقُّقهما.

وأمّا الأعدام والنقائص اللازمة للمهیّات حتّى المجرّدات فلیست ممّا یمكن تبدّلها إلى وجود حتّى تُعتبر أعداماً لملكات، ویُعتبر للموضوع شأنیّة الاتّصاف بها وبأعدامها. فلا تكون إلاّ أعداماً نسبیّة تنتزع من بعض مراتب الوجود بمقایستها إلى ما هو أتمُّ منها. ومثل هذه الأعدام لا تُعدّ شروراً، لأنّه لیس لموضوعاتها اقتضاء لمقابلاتها. فلیس للصادر الثانی مثلاً اقتضاء للوصول إلى مرتبة الصادر الأوّل حتّى

یعتبر نقص وجوده شرّاً له، كما أنّه لا یكون شرّاً لغیره أیضاً. نعم، للخیر مراتب، والخیر المحض الذی لا یتصوّر له جهة عدمیّة إطلاقاً هو الله تبارك وتعالى.(1)

بل یمكن أن یقال: إنّ الشرّ هو عدم لملكة یقتضیها شخص الموضوع لا نوعه فضلاً عن جنسه. فحرمان أنواع الحیوان من النفس الناطقة وكمالاتها لا یعدّ شرّاً لها، بل حرمان بعض أفراد الإنسان عن الكمال الذی یناله الأولیاء المقرّبون لا یعدّ شرّاً لهم إذا لم یكن لهم استعداد للوصول إلیه. وإنّما الشرّ هو حرمان كلّ فرد عمّا لشخصه استعداد خاصّ للوصول إلیه، واقتضاء لنیله، وشوق إلى تحصیله.

459 ـ قوله «غیر أنّها كیفما كانت...»

إلى هنا انتهى البحث عن حقیقة الخیر والشرّ والفحص عن مواردهما، وبذلك تهیّأت الأرضیّة للإجابة على السؤال عن سبب دخول الشرور فی القضاء الإلهیّ. والجواب المشهور هو المأثور عن المعلّم الأوّل، وهو أنّ الشرور الموجودة فی العالم المادّی لازمة للطبائع المادّیة بما لها من التضادّ والتزاحم، فلا سبیل إلى دفعها إلاّ بترك إیجاد هذا العالم، وفی ذلك منع لخیراته الغالبة على شروره، وهو خلاف حكمته وجوده سبحانه. مضافاً إلى أنّ كثیراً من هذه الشرور مقدّمة لحصول خیرات وكمالات جدیدة، فبموت بعض الأفراد تستعدّ المادّة لحیاة آخرین، وبإحساس الألم یندفع المتألّم إلى معالجة الأمراض والآفات وإبقاء حیاته، إلى غیر ذلك من المصالح التی تترتّب على الشرور.(2)

وهذا الجواب یتّفق مع القول بوجودیّة الشرور أیضاً، ویبتنی على أنّ شرور هذا


1. راجع: القبسات: ص‌‌428433.

2. راجع: السادس من تاسعة من إلهیّات الشفاء؛ والتلویحات: ص‌‌78ـ95؛ والمطارحات: ص‌‌466473؛ والقبسات: ص‌‌433435 و ‌‌448449؛ والأسفار: ج‌7، ص‌‌68ـ77.

العالم أقلُّ من خیراته. وقد عمد إلى إثبات هذه المقدّمة من طریق اللمّ بالاستناد إلى ما ثبت من عنایته تعالى. فیكون حاصل الجواب على القول بوجودیّة بعض الشرور أنّها مقصودة بالتبع وبالقصد الثانی. وأمّا على القول بعدمیّة جمیع الشرور فیكون الجواب أنّها مقصودة بالعَرض، لعدم ذات لها حتّى یتعلّق بها قصد حقیقی، سواء كان بالأصالة أو بالتبع.

وربما یستشكل على الجواب الأوّل بمنع غلبة الخیرات فی العالم الإنسانیّ، فإنّ أكثر أفراد هذا النوع لا ینالون جمیع الكمالات الإنسانیّة، خاصّةً بالنظر إلى قلّة المؤمنین بالنسبة إلى الكفّار والمشركین فی جمیع الأعصار، وبالأخصّ بالنظر إلى ما یلزم الكفر والعصیان من العذاب الخالد والشقاء الدائم.

وقد اُجیب عنه بأنّ قلّة الكاملین فی ما مضى لیس دلیلاً على قلّتهم فی ما سیأتی، فعنایته سبحانه تقتضی بقاء العالم بحیث یغلب فیه الخیر على الشرّ، والكامل على الناقص. وأمّا خلود الكفّار فی العذاب فقد أوّله بعضهم إلى طول المدّة، وذهب إلى أنّ الأمر ینتهی بأخرةٍ إلى نجاة الجمیع.(1)

لكن یمكن أن یجاب عنه بما یرفع الاستبعاد ولا یستلزم مخالفة نصوص الكتاب والسّنة. وهو أنّ غلبة الخیرات لا ینحصر فرضها فی أكثریّة الكاملین من حیث العدد، بل یتحقّق غلبة الخیرات بأخذ الكیفیّة وشدّة الخیریّة ومراتبها أیضاً بعین الاعتبار، فیمكن أن یكون الكاملون أقلَّ عدداً من الناقصین، لكن تكون مراتب كمالهم راجحة على شرور الهالكین.(2) بل لا یبعد أن تكون كمالات المعصومین(علیهم‌السلام) راجحة على نقائص جمیع الأوّلین والآخرین، وهم المقصودون بالخلق بالأصالة.


1. نفس المصدر: ص‌‌79ـ81 و 88ـ90.

2. راجع: القبسات: ص‌‌437.

الفصل التاسع عشر

460 ـ قوله «انّ عوالم الوجود الكلّیة ثلاثة»

المشهور بین الحكماء أنّ ما سوى الله تعالى ینقسم انقساماً أوّلیّاً إلى عالمین اثنین: أحدهما عالم المادّیات، وهو عالم الأجسام بموادّها وصورها وأعراضها والنفوس المتعلّقة بها، وثانیهما عالم المفارقات، وهو عالم العقول المجرّدة عن المادّة، والمنزّهة عن آثارها وخواصّها كالزمان والمكان وغیرهما. وأنّ نظام العالم المادّیّ تابع لنظام العالم العقلیّ، كما أنّه بدوره ظلٌّ للنظام الربّانیّ فی علمه سبحانه. أمّا العالم المادّیّ فهو مشهود بالحسّ، ویثبت وجوده العینیّ بمعونة من العقل كما مرّت الإشارة إلیه تحت الرقم (390) وأمّا العالم العقلیّ فیثبت بالبرهان، وقد أقاموا براهین(1) لإثباته مما سبقت الإشارة إلی بعضها تحت الرقم (364).

وقد أثبت شیخ الإشراق عالَماً متوسّطاً بینهما سمّاه «عالم الأشباح المجرّدة» و«الصور المعلّقة» واستدلّ لإثباته بضرب من البرهان، وذهب إلى أنّ الإدراكات الجزئیّة تحصل بمشاهدة تلك الصور، وأنّها هی التی تظهر فی المرایا. وكان یرى أنّ حشر المتوسّطین إلى ذلك العالم. لكن كانت عمدة مستنده هی المكاشفات. وقد جعل عالم النفوس عالَماً برأسه، فتصیر العوالم عنده أربعة: أحدها عالم المفارقات المحضة التی یسمّیها بالأنوار القاهرة، وثانیها عالم النفوس التی یسمّیها بالأنوار المدبّرة والأنوار الإسفهبدیّة، وثالثها عالم الأشباح المجرّدة أو الصور أو المُثل المعلّقة (وهی غیر المُثل الأفلاطونیّة والعقول العرْضیّة) ورابعها عالم الأجسام التی یسمّیها بالبرازخ، ویصفها بالظلمات والغواسق والصیاصی. أمّا عالم الأشباح


1. راجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌262ـ276؛ وراجع: القبسات: ص‌‌380ـ387.

فیتشكّل من صور نوریّة للسعداء، وصور ظلمانیّة للأشقیاء، وینسب الجنّ والشیاطین إلى هذا العالم، كما أنّه ینسب الملائكة إلى عالم الأنوار القاهرة.(1)

وفی كلامه مواقع للنظر والمنع، كالقول بأنّ الإدراكات الجزئیّة تتعلّق بعالم الأشباح، وأنّ الصور المعلّقة هی التی تظهر فی المرایا، وأن الجنّ من عالم الأشباح، إلى غیر ذلك. ومن جانب آخر: فربما یتأیّد وجود عالم الأشباح بالأدلّة النقلیّة، خاصَّةً بالنظر إلى ورود تعابیر الأشباح والأظلال فی الروایات الشریفة. ویمكن تطبیق ما ورد فی عالم البرزخ علیه.

وقد ناقش صدر المتألّهین فی قسم من كلماته فی مواضع من كتبه، لكّنه سلّم عالم الأشباح المجرّدة، وجعل للنفس مراتب بإزاء العوالم الكلّیة، وهی مرتبتها العقلیّة بإزاء العالم العقلیّ، ومرتبتها المثالیّة التی ینسب إلیها الإدراكات الجزئیّة ویسمّیها «المثالَ الأصغر» بإزاء المثال الأعظم (عالم الأشباح المجرّدة)، ومرتبتها النازلة المتعلّقة بالبدن. وبهذا الشكل لا یعتبر عالم النفوس عالَماً برأسه، فتكون العوالم عنده ثلاثة، وهو الذی ارتضاه سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) وركّز علیه فی مواضع من هذا الكتاب، واستدلّ علیه بما مرّ فی الفصل السابع عشر، وحاصله أنّ الموجود الإمكانیّ إمّا أن یوجد فیه القوّة والاستعداد والتغیّر والتحوّل، وهو الموجود المادّى، أو لا توجد فیه هذه الاُمور، وهو الموجود المجرّد. ثمّ المجرّد إمّا أن توجد فیه آثار المادّة وهو الموجود المثالیّ أو البرزخیّ، وإمّا أن لا یوجد فیه شیء من آثار المادّة، وهو المجرّد العقلیّ.

لكن مقتضى هذا التقسیم أن تُعدّ النفس فی بدء وجودها من عالم نازل، ثمّ بعد استكمالها ترتقی إلى أعلى، أو تُعتبر لها نشآت مختلفة. وهو خلاف ظاهر التقسیم. فالأولى جعلها نوعاً برأسه، ممّا لا یستلزم صیرورتها عقلاً من العقول بعدما كانت


1. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌138ـ148 و 229ـ236.

صورةً من الأشباح، بل لها جوهرها الخاص بها، القابل للاشتداد والتضعّف وللصعود والسقوط، وللعروج والنزول، من غیر أن ینقلب جوهرها ویتبدّلَ عالَمها. مضافاً إلى أنّ التقسیم الثانی هو تقسیم ثانویّ فی طول التقسیم الأوّل، فلْتجزْ تقسیمات اُخرى وإن لم نعلم بتفصیلها، ولیجزْ وجود عوالم اُخرى وإن لم یكن لعقولنا سبیل إلى معرفتها. وكیف كان فلا نرى موجباً لحصر العوالم فی الثلاث، فلیتأمّل.

461 ـ قوله «وإذ كان الوجود...»

بعد الفراغ عن إثبات العوالم تجیء النوبة إلى تبیین ارتباطها ببعض. فذكر الاُستاذ(قدس‌سره) أوّلاً أنّ بینها تقدُّماً وتأخّراً، وثانیاً أنّ بینها علاقةَ العلّیة، وثالثاً أنّها متطابقة باشتمال كلّ عالم أعلى على كمالات ما دونه، ورابعاً أنّها جمیعاً آیات للواجب تعالى.

أمّا الأوّل فیمكن أن یراد بتقدّم بعضها على بعض تقدُّمه بالشرف، لكن مراده هو التقدّم فی المرتبة الوجودیّة، خاصّة بالنظر إلى ما ركّز علیه كمقدّمة لهذه المطالب من كون الوجود حقیقةً واحدةً ذات مراتبَ مشكّكة. وأمّا الثانی فقد حاول تبیینَه بتوقُّف بعضها على بعض، وسبق المتوقَّف علیه. لكنّ التوقُّف غیر بیّن ولا مبیّن، والسبق أعمُّ من السبق بالعلّیّة. ولعلّه عوّل على النتیجة الاُولى بضمیمة تلك المقدّمة فی كون اللاحق متوقّفاً على السابق. ویلاحظ علیه أنّ التشكیك فی الوجود على نحوین: التشكیك العامّیّ كما فی لونین مختلفین بالشدّة والضعف مثلاً، والتشكیك الخاصّی الذی یوجد بین المعلول وعلّته المفیضة، والأوّل لا یثبت ما هو بصدده من العلّیّة الإیجادیّة، وثبوت الثانی ههنا رهن للبرهان. فمن المحتمل أن یكون العالم المثالیّ والعالم المادّىُّ صادرین معاً عن العالم العقلیّ ولیس هناك ما یثبت أنّ كلَّ مجرّد فهو واقع فی سلسلة العلل للمادّیات، كما أنّ الصور الذهنیّة والكیفیّات النفسانیّة لا توجد شیئاً من الجواهر المادّیة وأعراضها فی عالم الأعیان.

مضافاً إلى صعوبة تبیین صدور النفس بناءاً على وساطة عالم المثال، بالنظر إلى مراتبها المختلفة فی عین وحدتها، فلیتأمّل. وأمّا الثالث فهو فرع ثبوت العلّیة بین الجمیع، وأمّا الرابع فواضح لضرورة كون الجمیع معلولاً له سبحانه.

الفصل العشرون

462 ـ قوله «فی العالم العقلیّ...»

لم نجد خلافاً من الحكماء فی أنّ للعالم العقلیّ وساطةً فی إیجاد ما دونه. وأمّا نفس العالم العقلیّ ففی كثرته طولاً وعرضاً خلاف،(1) وأشهر الأقوال هو قول أتباع المشّائین بالعقول العشرة المترتّبة بعضها على بعض، ووساطة كلّ منها فی إیجاد مادونه. كما أنّ الأوّل منها واسطة فی إیجاد الفلك الأقصى والنفس المتعلّقة بها ـ على زعمهم ـ أیضاً، وأنّ الثانی منها واسطة فی إیجاد فلك البروج ونفسه، وهكذا إلى أن ینتهی إلى العقل العاشر الذی هو الفاعل المباشر لعالم العناصر. فعلى هذا القول لا یصدر فی المرتبة الأولى إلاّ العقل الأوّل، لكن فی كلّ واحدة من المراتب التالیة تصدر ثلاثة اُمور: عقل ونفس وجرم فلك، وأمّا العقل العاشر فیصدر عنه هیولى العناصر والصورة الجسمیّة المنطبعة فیها اللازمة لها، ثمّ جمیع الصور الجوهریّة وأعراضها حسب الاستعدادات الحاصلة من تأثیر الأوضاع الفلكیّة وحركاتها.

وأمّا الإشراقیّون فقد ذهبوا إلى أنّ فی المرتبة الأخیرة من مراتب العالم العقلیّ صدرت عقول كثیرة بعدد الأنواع الموجودة فی هذا العالم، وهی المُثُل الأفلاطونیّة، وسیأتی الكلام فی كلّ من القولین.


1. راجع: القبسات: ص‌‌387ـ389.

ومن المتّفَق علیه بین الكلّ أنّ الصادر الأوّل هو أشرف العقول وأكمل جمیع المخلوقات والواسطة لصدور ما دونه، وربما یتأیّد ببعض الروایات الواردة بشأن أوّل ما خلق الله تعالى. وقد استدلّوا على ذلك بقاعدة «الواحد» التی مرّ الكلام فیها تحت الرقم (243) وقد أشرنا هناك إلى أنّه یمكن إثبات هذا المطلب من طریق آخر غیر تلك القاعدة، وهو یبتنی على أصالة الوجود، وكونه ذا مراتب طولیّة، وأنّ الوجود كلّما كان أقوى كان أبسط وأقرب إلى التأحّد، فلابدّ أن یكون أعلى المراتب الإمكانیّة وأقربها إلى الذات الأحدیّة أبسطَها وأشملَها للكمالات الإمكانیّة، ولا یمكن فرض ثان له فی تلك المرتبة.

463 ـ قوله «ثمّ إنّ الماهیّة لا تتكثّر...»

الذی یثبت بقاعدة «الواحد» هو الوحدة النوعیّة للصادر الأوّل ـ بناءاً على اختصاص القاعدة بالواحد النوعیّ ـ فیبقى السؤال عن الدلیل على وحدته الشخصیّة. ولأجل الإجابة علیه استندوا إلى قاعدة اُخرى هی «انحصار كلّ مجرّد تامّ فی شخص واحد» وقد مرّ الكلام علیها تحت الرقم (108). وأمّا الوجه الذی أشرنا إلیه آنفاً فهو یثبت الوحدة الشخصیّة أیضاً، فتدبّر.

464 ـ قوله «وانّ فیه أكثر من جهة واحدة...»

بناءاً على تعمیم قاعدة «الواحد» لغیر الواجب ـ خلافاً لصدر المتألّهین فی بعض كلماته ـ یلزم أن تكون هناك سلسلة واحدة من العلل ولا یصدر عن شیء منها إلاّ معلول واحد یكون بدوره علّة لما دونه، فیثور السؤال عن كیفیّة حصول الكثرة العرْضیّة، وعن إمكان صدور جرم الفلك ونفسه عن كلّ من العقول التسعة مع صدور عقل منه، وكیفیّة حصول الكثرات فی عالم العناصر وصدورها عن العقل

العـاشر ـ حسب ما زعموا ـ وكذا عن كیفیّة صدور العقول العرْضیّة الكثیرة على رأی الإشراقیّین.

وقد احتالوا للإجابة علیه(1) بأنّ العقل الأوّل وإن كان واحداً شخصیّاً إلاّ أنّه تلزمه جهات متعدّدة هی علمه بمهیّته الممكنة، وبوجوده الواجب بالغیر، وبعلّته الموجبة له، وهو الواجب تبارك وتعالى. فعلمه بالواجب الذی هو أشرف جهاته صار علّةً لصدور العقل الثانی، وعلمه بوجوده الواجب بالغیر صار علّة لصدور نفس الفلك الأقصى، وعلمه بإمكان وجوده هو علّة لصدور جرم ذلك الفلك، وهكذا إلى العقل التاسع. وأمّا العقل العاشر فالذی یصدر عنه بلا مشاركة من غیره هو جرم عالم العناصر، وأمّا ما یحدث فیه من الصور والأعراض فبمشاركة من التأثیرات الفلكیّة ممّا یؤدّی إلى استعدادات للمادّة لصور وأعراض حادثة. فلا تكون هذه الكثرة صادرة عن فاعل واحد بما أنّه واحد، فلا تنتقض قاعدة «الواحد» بها.

والذی دعاهم إلى هذه التكلّفات هو ما تسلّموه كأصل موضوع من الأفلاك التسعة ذوی النفوس، فالتزموا بوجود عقول تسعة لصدورها، وبوجود عقل عاشر لصدور عالم العناصر الذی هو فی جوف تلك الأفلاك. وقد اتّضح بفضل تقدُّم العلوم الطبیعیّة بطلان ذلك الأصل وفساده من أصله، فانهار البناء بعد انهدام الأساس على عروشه فضلاً عن نقوشه. مضافاً إلی ما كان یتوجّه إلیهم من أسئلة لم تكن تجدُ أجوبةً صحیحةً عندهم كما یلی:

الف) هل تلك الجهات الثلاثة المفروضة فی العقول كثرة حقیقیّة أو اعتباریّة؟ فإن اختیر الشقّ الأوّل لزم صدور الكثیر عن الواحد فی المرتبة الأولى، وإن اختیر الشقّ الثانی لزم ذلك فی المرتبة الثانیة؛


1. راجع: الفصل الرابع والفصل الخامس من المقالة التاسعة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: النجاة: ص‌‌273ـ278؛ والمباحث المشرقیة: ج‌2، ص‌‌501515؛ والأسفار: ج‌7، ص‌‌192ـ281.

ب) ما هی العلاقة الذاتیّة بین كلّ واحد من تلك العلوم وبین ما یصدر عنها بحیث یتعیّن بها صدور كلّ واحد من المعالیل الثلاثة عن جهة خاصّة بالضرورة؟ مع أنّ الذی یعتبر فی الفاعل العلمیّ هو علمه بمعلوله لا غیر؛

ج) لِمَ لم یصدر عن العقل الثانی أكثر من ثلاثة أشیاءَ بالرغم من زیادة جهة فیه، وهی علمه بالعقل الأوّل أیضاً؟ وهكذا فی سائر العقول حیث یزداد جهاتها كثرةً؛

د) ما هو المانع عن صدور عقل آخر وفلك آخر مع نفسِه عن العقل العاشر؟ إلى غیر ذلك وكیف كان فقد طوى سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) عن هذه الفرضیّة كشحاً، ومرّ بها كریماً. وركّز على أنّ الوجود كلّما تنزّل ازدادت جهة الكثرة فیه، فیجب أن تتنزّل مراتبه إلى حیث تتكافأ تلك الجهات مع ما فی العالم الذی یلی عالم العقول من الكثرة، وهو عالم المثال حسب رأیه.

465 ـ قوله «وتُسمَّى هذه العقول أربابَ الأنواع والمُثُلَ الأفلاطونیّة»

لفظة «المُثل» فی كتب الفلسفة مقرونة ب‍ «أفلاطون» بحیث صارت الكلمتان تتداعیان فی الذهن كالحاتم والسخاء... ولا شكَّ أنّ القول بالمُثل یشكّل رُكناً من أركان فلسفة أفلاطون، بل لیس من الجزاف أن یقال: إنّه رُكنها الركین وعمادها القویم، لأنّه علیه یبتنی كثیر من نظریّاته فی باب المعرفة، ونظام الوجود، والأخلاق وغیرها. وبالرغم من اشتهار هذا القول لیس لدینا ما یوضح كلَّ جوانبه، ویُحدّد صِلاتِه بسائر المسائل. وقد اختلفت كلمات الناقلین والشارحین بحیث یصعب الجمع بینها والاستیقان بمراد أفلاطون بالضبط.

والمتیقَّن أنّه كان قائلاً بوجود اُمور مجرّدة تامّة لها علّیة لما فی هذا العالم المادّی. لكن حول ذلك نقاط مبهمة كثیرة لم تتوضّح للمحقّقین الجُدُد من

الغربیین أیضاً، فلا تزال موضعَ نقاش وجدال بینهم، لا فی قبولها أوردَها فحسب، بل فی تعیین ما كان یعتقد أفلاطون بشأنها. وإلیك نماذج من الأسئلة التی تتعلّق بهذه النقاط:

1. هل لجمیع ما ینتسب إلى هذا العالم مثال عقلیّ، سواء كان من الطبیعیّات أو الریاضیّات أو غیرها، أو هی مختصّة بالطبیعیّات؟ ثمّ هل هی لجمیع الطبیعیّات أو لكلّ الأنواع الجوهریّة منها، أو للأنواع الشریفة خاصّةً، فلا یوجد للأشیاء الخسیسة والخبیثة مثال عقلىٌّ ـ كما عن بعض محاوراته ـ ؟

2. هل للأخلاق والجمال أیضاً مُثل عقلیّةٌ أو لا؟ وعلى الإثبات فهل للأخلاق الرذیلة أیضاً مثال أو مُثُل أو لا؟

3. هل المُثل جواهرُ عینیّةٌ قائمة بذواتها أو هی صور عقلیّة قائمة بذات البارئ سبحانه ـ كما ربما یظهر من الفارابیّ حیث حاول الجمع بین رأی أفلاطون ورأی تلمیذه أرسطو فی هذا الباب ـ ؟

4. هل تحصل المعرفة العقلیّة والعلم بالمفاهیم الكلیّة دائماً بمشاهدة المُثل أو تذكّرها أو یختصّ ذلك ببعض العلوم؟ وعلى الأخیر فكیف یحصل العلم بسائر المفاهیم الماهویّة والمعقولات الثانیّة والمفاهیم الاعتباریّة؟

5. هل كان أفلاطون نفسه یبرهن على وجود المُثل أو كان یكتفی بالشهود والتجربة الذاتیّة أو بالاعتماد على شهود الآخرین أو آرائهم؟

6. ما هی النسبة بین المُثل أنفسها؟ هل هی جمیعاً فی عرْض واحد بلا تفاضل بینها أو هی على طبقات متفاوتة ودرجات متفاضلة؟ وإذا كان بینها تفاضل فهل یعنی ذلك نوعاً من العلیّة بینها أو لا؟

7. ما هی النسبة بین المُثل والطبائع الكلیّة وأفرادها المادیّة؟ هل المُثل هی الطبائع أو أفراد مجرّدة منها أو لا هذا ولا ذاك وإنّما هی علل فاعلیّة للأفراد؟

ولعلّك تحصل على أجوبة لهذه الأسئلة فی ما نقل عنه فی مطاوی كتب القوم(1) وخاصّةً فی كتب شیخ الإشراق، لكنّها غیر مفیدة للیقین، مضافاً إلى ما یتراءى بینها من تعارضات.

وكیف كان، فكلام الاُستاذ(قدس‌سره) ههنا مبنیٌّ على اعتبار المُثل كأفراد مجرّدة من المهیّات النوعیّة الجوهریّة التی توجد لها أفراد مادّیة فی هذا العالم، وإن لم نجد تصریحاً بفردیّتها لتلك المهیّات فی مصدر معتبر، وإنّما حمل صدر المتألّهین كلامهم علیه لئلاّ یرد علیه بعض الإشكالات.(2)

466 ـ قوله «أحدها أنّ القوى النباتیّة...»

هذا الدلیل هو الذی أقامه شیخ الإشراق فی المطارحات،(3) ونقله عنه فی الأسفار،(4) وحاصله أنّ القوى النباتیّة أعراض ثابتة فی النباتات، فلابدّ من حامل ثابت لها، وهو إمّا الروح البخاریّ أو نفس الأعضاء أو النفس المدبّرة المتعلّقة بها أو العقل المفارق. أمّا الروح البخاریّ والأعضاء فهی دائمة التحلّل والتبدّل فلا تصلح لحفظ تلك القوى، وأمّا النفس فلیست موجودة للنبات، وإلاّ لكانت ضائعة متعطّلة ممنوعة من الكمال أبداً، وهو محال. فلابدّ أن تكون أفعالها العجیبة التی تؤدّی إلى حصول الهیئات الحسنة والتخاطیط الرائعة صادرةً عن عقل مفارق حافظ لقواها ومدبّر لأفاعیلها.


1. راجع: الفصل الثانی والفصل الثالث من المقالة السابعة من إلهیّات الشفاء؛ والمطارحات: ص‌‌453-464؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌138ـ147 و 155ـ167؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌110ـ113؛ والأسفار: ج‌2، ص‌‌46ـ81؛ وج5: ص‌‌504506؛ وج7: ص‌‌169ـ171.

2. نفس المصدر: ج‌2، ص‌‌62.

3. راجع: المطارحات: ص‌‌455459.

4. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌5355.

ویلاحظ علیه أوّلاً أنّه لو تمّ لدلّ على ثبوت المُثُل للنباتات فقط، أمّا الجماد فلیست له تلك القوى المختلفة الثابتة، وأمّا الحیوان فله نفس مدبّرة تغنیه عن تدبیر المفارق مباشرةً، وثانیاً أنّ هذا البیان مبتنٍ على إنكار الصور الجوهریّة المنطبعة فی المادّة، فلیس بمقنع لأتباع المشّائین، ولهم أن یقولوا بأنّ حامل القوى هو تلك الصورة النوعیّة، وأمّا تدبیرها الحكیم فمستند إلى العقل الفعّال، كما جاء فی المتن.

467 ـ قوله «الثانی أنّ الأنواع الطبیعیّة...»

هذا الدلیل هو الذی أقامه فی حكمة الإشراق(1) وضمّ إلیه صدر المتألّهین(2) بعض ما ذكره فی المطارحات، وحاصله أنّ الأنواع الطبیعیّة باقیة منحفظة بأفرادها، ولیس وجود الأفراد واحداً بعد واحد بمجرّد الاتّفاق، فهناك تدبیرٌ واعٍ لحفظها وإبقائها، ولایكون ذلك إلاّ من قِبل عقل مفارق حافظ للنوع بتعاقب الأفراد وتكاثرها، خاصّةً بالنظر إلى ما فی صُنع كلّ فرد منها من الحِكم والأسرار العجیبة التی لا یمكن إسنادها إلى مزاج أو قوّة عمیاء.

ویلاحظ علیه أنّ بقاء النوع معلول لأفاعیل الأفراد كأنواع التناسل والتولید، وتلك الأفاعیل هی من خواصّ صُورَها النوعیّة. وأمّا هذا النظام الحكیم الجاری فیها فهو مستند إلى العقل الفعّال، وهذا البیان لا یُثبت وجود مدبّر خاصّ بكلّ نوع.

468 ـ قوله «الثالث....»

هذا الدلیل هو الذی أشار إلیه فی حكمة الإشراق بقوله «إمکان الأشرف یقتضی


1. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌143ـ144.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌5657.

وجود هذه الأنواع النوریّة المجرّدة»(1) وقد ناقش فیه الاُستاذ(قدس‌سره) بما حاصله أنّه إمّا أن یشترط فی مجرى القاعدة كون الأشرف والأخسّ من نوع واحد(2) وإمّا أن لا یشترط ذلك، فعلى الاشتراط لا نسلّم صحّة القاعدة لقصور برهانها عن إثبات هذا الشرط ـ على ما سیأتی ذكره ـ فإنّ مقتضى ذلك البرهان هو لزوم وجود الممكن الأشرف فی مرتبة متقدّمة على وجود الأخسّ ممّا یرجع إلى علّیته له، لا لزوم صدق مهیّة الأخسّ على الأشرف أیضاً بحیث یصیران من نوع واحد. وأمّا بناءاً على عدم الاشتراط فلا تثبت بها المُثُل بمعنى الأفراد المجرّدة من الأنواع بحیث تندرج تلك الأفراد فی مهیّاتها، وإنّما یثبت بها وجود موجود أشرفَ واجدٍ لكمالات الأخسّ بنحو أتمَّ، وإن لم یندرج فی مهیّة الأخسّ، وهذا هو العقل الفعّال المشتمل على جمیع كمالات مادونه.

وهذا المناقشة مبنیّة على تفسیر المُثُل بالأفراد المجرّدة من المهیّات التی لها أفراد مادّیة أیضاً، كما أشرنا إلیه تحت الرقم (465) وهو الذی التزم به صدر المتألّهین ونسبه إلى صریح كلماتهم، خلافاً لشیخ الإشراق حیث حمل كلامهم على مجرّد المناسبة والعلّیة لا المماثلة النوعیّة.(3) وهذا هو مقتضى كلامه ههنا أیضاً حیث عبّر ب‍ «الأنواع المجرّدة» دون «الأفراد المجرّدة من الأنواع». وقد أشرنا إلى أنّا لم نظفر بدلالة صریحة بل ظاهرة ممّا نقل عن أفلاطون على التفسیر الذی قدّمه صدر المتألّهین للمُثل، ولعلّ تفسیر شیخ الإشراق هو الأقرب.

وكیف كان، فلقائل أن یقول: یمكن أن یثبت بقاعدة إمكان الأشرف والأخسّ وجود عقول عرْضیّة متوسّطة بین العقل الفعّال ـ حسب ما یراه المشّاؤون ـ والعالَم


1. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌143؛ والأسفار: ج‌2، ص‌‌58.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌7، ص‌‌247.

3. نفس المصدر: ج‌2، ص‌‌60.

المادّیّ، من غیر أن تُعتبر أفراداً مجرّدةً للأنواع المادّیة، سواء كانت هی التی سمّاها أفلاطون بالمُثل أو غیرها.

تقریر ذلك أنّ العقل یجوّز أن تكون هناك موجوداتٌ مجرّدة بحیث یكون كلّ واحد منها واجداً لكمالات نوع واحد من المادّیات بنحو أتمَّ ـ لا لكمالات جمیع الأنواع المادّیة كالعقل الفعّال المفروض ـ بحیث یصلح أن یكون علّة لما بحذائه من النوع المادّی، فبمقتضى تلك القاعدة یجب أن یكون هذا الأشرف موجوداً فی مرتبة متقدّمة على النوع المادّی وعلّةً مباشرةً له.

وعلى هذا یمكن أن یكون نظام العالم العقلیّ بهذا الشكل: یكون فی المرتبة الأولى موجود بسیط واجد لجمیع الكمالات الإمكانیّة، وهو العقل الأوّل، ویلیه عدد من العقول فی مرتبة واحدة، لكلّ منها قسم من الكمالات الموجودة فی العقل الأوّل، وهكذا تتنزّل مرتبة العقول إلى أن توجَد عقول یكون كلّ واحد منها واجداً لكمالات نوع واحد من المركّبات والموالید فی هذا العالم كالإنسان وسائر أنواع الحیوان والنبات، ثمّ یصدر عن كلّ واحد منها عقول اُخرى یكون كلّ واحدٍ منها واجداً لنوع خاصّ من كمالات هذه الأنواع، وعلّةً لنوع بسیط من الأنواع المادّیة كالعناصر مثلاً. وفی هذا النظام یكون كلّ عقلٍ واقعٍ فی مرتبة علیا مهیمناً على العقول الجزئیّة الصادرة عنه وتكون للعقول المتكافئة أیضاً مراتب شتّى. ولعلّه أوفق بما ورد فی لسان الشرع من طبقات الملائكة(علیهم‌السلام)، كما أنّ منهم من هو فی مرتبةٍ أدونَ من مراتب العقول، وهم الموكَّلون بعالم البرزخ والحوادث المادّیة، كما ورد فی الروایات الشریفة، والله العالم.

469 ـ قوله «تنبیه»

قد لاحظْنا أنّ أحسن ما یتمسّك به لإثبات العقول العرْضیّة هو قاعدة إمكان الأشرف،

ولم یبحث عنها فی هذا الكتاب حتّى الآن، ولهذا فقد تصدّى لبیانها والاستدلال علیها. وأوّل من استعملها هو المعلّم الأوّل فی كتاب السماء والعالم حیث نقل عنه أنّه قال: «یجب أن یعتقد فی العلویّات ما هو أكرم» وتبعه فلوطین الإسكندرانیّ فی «اُثولوجیا» ثمّ الشیخ الرئیس فی مواضع من الشفاء والتعلیقات، وقد اعتنى بشأنها شیخ الإشراق فی التلویحات والمطارحات وحكمة الإشراق(1) وتبعه الشهرزوریّ فی «الشجرة الإلهیّة» ثمّ أمعن السیّد الداماد(2) وصدر المتألّهین(3) فی تحقیقها ودفع ما استشكل علیها.

470 ـ قوله «وقد قرّر الاستدلال...»

هذه الحجّة هی التی أقامها شیخ الإشراق وقرّرها قطب الدین الشیرازیّ فی شرح حكمة الإشراق والسیّد الداماد فی القبسات وصدر المتألّهین فی الأسفار، حاصلها أنّه لو لم یوجد الأشرف قبل الأخسّ ـ بأن لا یوجَد العقل الأوّل قبل الثانی مثلاً ـ فإمّا أن یصدر معه أو بعده أو لا یصدر أصلاً. والأوّل یستلزم صدور الكثیر عن الواحد، والثانی یستلزم علّیّة الأخسّ للأشرف، والثالث یستلزم حاجة الأشرف إلى علّةٍ أشرفَ من الواجب تعالى وهو محال، أو امتناع وجوده والمفروض أنّه ممكن.

وهذه الحجّة مبتنیة على قاعدة امتناع صدور الكثیر عن الواحد وقد مرّ الكلام فیها. ثمّ إنّ المحقّق الدوانیّ أورد إشكالاً علیها فی شرح الهیاكل، وقد وصفه السیّد الداماد بالشك المعضل، وصدر المتألّهین بالشكّ العویص، وتصدّیاً لدفعه،(4) ولا نطیل ببیانه والمناقشة فیه، كما أنّ السیّد أقام برهانین آخرین علیها.(5)


1. راجع: التلویحات: ص‌‌3142؛ والمطارحات: ص‌‌434435؛ وحكمة الإشراق، ص‌‌154.

2. راجع: القبسات: ص‌‌372ـ380.

3. راجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌244ـ257.

4. راجع: القبسات: ص‌‌374ـ377؛ والأسفار: ج‌7، ص‌‌249ـ253.

5. راجع: القبسات: ص‌‌377ـ378.

471 ـ قوله «ویمكن الاستدلال....»

حاصل هذا الدلیل أنّ العلّیة علاقة ذاتیّة بین الوجود الرابط والوجود الذی هو مستقلّ بالنسبة الیه، ویرجع ذلك إلى التشكیك الخاصّی فی مراتب الوجود، فلو وُجد الأخسّ ولمّا یوجد الأشرف بعدُ كان وجوده بلا علّة مباشرة، ویعنی ذلك استقلاله عنها.

ویمكن أن یناقش فیه بأنّ الأخسّ فی الفرض المذكور لا یصیر مستقّلاً مطلقاً، فإنّه رابط بالنسبة إلى الواجب تعالى، ولزوم الواسطة بینهما ممنوع.

لكن یمكن الدفاع عنه بأنّ علاقة العلّیة بین شیئین إمّا واجبة وإمّا ممتنعة ولا ثالث لهما، لأنّ فرض إمكانها الخاصّ ینافی ذاتیّتها، فإمكانها مساوق لوجوبها، فلو أمكن علّیة شیء للأخسّ المفروض كان ذلك واجباً. وقد مرّ نظیر الكلام فی خامس الاُمور التی ذكرناها تحت الرقم (231). وبهذا البیان یثبت تسلسل مراتب الوجود وامتناع الطفرة بینها.

وبالنظر إلى ذلك یبدو إشكال، هو أنّ مراتب الوجود تُشكّل سلسلةً ممتدّةً تتمثّل فی الذهن كخطّ مستقیم، فكلّما أخذنا مرتبتین منها أمكن فرض مرتبة متوسّطة بینهما وهكذا إلى غیر النهایة، فیلزم أن تكون مراتب الوجود غیر متناهیّة وهی محصورة بین حاصرین: مرتبة وجود الواجب وأیّ مرتبة أخذناها بعین الاعتبار إلى أدنى مراتب الوجود.

قال صدر المتألّهین: «وهذا الإشكال ممّا عرضته على كثیر من فضلاء العصر، وما قدر أحد على حلّه»(1) ثمّ ذكر فی دفعه ما استفاده من التأمّل فی حقیقة النفس ومراتبها ودرجاتها، حاصله أنّ تلك المراتب غیر منفصلة بعضها عن بعض، إلاّ فی مقاطع محدّدة تتعیّن بظهور آثار خاصّة. وبعبارة اُخرى: هی كالأجزاء المفروضة لامتداد واحد، حیث لا تستلزم اجتماع اُمور غیر متناهیة بالفعل بین حدّین.


1. راجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌255.

وجدیر بالذكر أنّه أسّس قاعدة اُخرى سمّاها «إمكان الأخسّ» وأثبت بها الحیاة المثالیّة والإدراكات الخیالیّة فی عالم البرزخ والصور الجوهریّة فی عالم المادّة.(1)

الفصل الحادی والعشرون

472 ـ قوله «ویسمَّى أیضاً البرزخ»

وهو نظیر اصطلاح المتشرّعة حیث یسمّون العالم المتوسّط بین الدنیا والآخرة برزخاً، وكأنّه مأخوذ من قوله تعالى: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى یَوْمِ یُبْعَثُونَ‌»(2) بل یمكن أن یقال إنّه هو بعینه، وإنّما الفرق بینهما من حیث قوس النزول والصعود. وهذا العالم هو الذی یسمّیه شیخ الإشراق «عالم الأشباح المجرّدة» و«المُثُل المعلّقة» وهو غیر عالم البرازخ ـ حسب اصطلاحه ـ فإنّ المراد به هو عالم الأجسام المادّیة، كما مرّ تحت الرقم (460).

والمعوّل فی إثبات هذا العالم على المكاشفات التی یؤیّدها بعض الأدلّة النقلیّة. ولو ثبت إمكان علّیة الصور المثالیّة للاُمور المادّیة ـ كما هو رأی سیّدنا الاُستاذ ـ لَجَرَت فیها قاعدة إمكان الأشرف أیضاً، لكن إثبات ذلك مشكل كما أشرنا إلیه تحت الرقم (461) ولعلّه لهذا لم یستدلّ بها شیخ الإشراق وصدر المتألّهین لإثبات هذا العالم.

ولقائل أن یقول: یمكن إجراء القاعدة فی الصور المعلّقة من جهة أنّها أشرف من صورنا الذهنیّة الخیالیّة، حیث إنّها أعراض قائمة بالنفس وهی جواهر قائمة بذواتها، لكن غایة ما یثبت بها علّیتها للصور الإدراكیّة الجزئیّة لا لجمیع ما فی هذا العالم من الجواهر والأعراض، كما یمكن أن یستدلّ بقاعدة إمكان الاخسّ، فلیتأمّل.


1. نفس المصدر: ص‌‌257ـ258.

2. سورة المؤمنون، الآیة 100.

473 ـ قوله «وفیه أمثلة الصور...»

قد مضى فی الفصل السابق أنّ مراتب العقول تتنزّل إلى عقل تُوجَد فیه جهات من الكثرة تتكافأ مع ما فی العالم الذی یلیه من الكثرة، وهو عالم المثال. فجهات الكثرة وإن لم تكن متمایزة فی وجود العقل إلاّ أنّه یوجَد بحذاء كلّ منها جوهر مثالیّ هو ظلّ ومعلول لتلك الجهة. ثمّ إنّ هذه الجواهر المثالیّة تتمثّل بعضها لبعض على هیئات مختلفة تتحقّق بها جهات اُخرى من الكثرة بحیث تصلح لصدور كثرات متكاثرة عنها فی العالم المادّی. وتلك الجهات المتعدّدة فی الجواهر المثالیّة لا تنافی وحدة الجوهر فی كلّ واحد منها. وقد مثّل لذلك مثالاً للتقریب إلى الأذهان، وهو أن یتصوّر عدّةٌ من الأفراد شخصاً واحداً فی ذهنه بأن یتمثّل ذلك الشخص فی كلّ ذهن على هیئة خاصّة غیر ما فی ذهن الآخر من الهیئة. فالهیئات مختلفة والشخص واحد، فتأمّل.

ثمّ انتقل إلى ما ذكره صدر المتألّهین من تقسیم المثال إلى مثالٍ أصغرَ هو مرتبة من مراتب النفس، ومثالٍ أعظمَ هو ذلك العالم المستقلّ عن الأذهان، وأشار إلى ما استدلّ به للمثال الأصغر من تحقّق صور قبیحة وجزافیّة لا یصحّ استنادها إلى ذلك العالم، وقد مرّت الإشارة إلیه تحت الرقم (355).

الفصل الثانی والعشرون

474 ـ قوله «وقد تبیّن فی الأبحاث السابقة...»

الذی تبیّن لنا من الأبحاث السابقة هو الوحدة الاتّصالیّة بین الجواهر المادّیة ووحدة النظام الجاری فی هذا العالم. وأمّا كون العالم المادّیّ برمّته شخصاً واحداً ذا حركة واحدة شخصیّة فقد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (295 و 313 و 317).

475 ـ قوله «والغایة التی تنتهی إلیها...»

كون المجرّد غایة للمادّی یتصوّر على وجوه: أحدها أن یكون المجرّد غایةً بالذات لحركة المادّی، وثانیها أن یكون غایةً لها بالعرض، وثالثها أن یكون علّةً غائیّةً لها. أمّا غایة الحركة بالذات فقد مرّ تحت الرقم (303) أنّها هی الطَرف العدمیّ الذی تنتهی إلیه الحركة المتناهیة كالنقطة من الخطّ، وأمّا العلّة الغائیّة فقد مرّ تحت الرقم (258ـ262) أنّها تختصّ بذوی الشعور، فیبقى أن یكون المجرّد غایةً بالعرض للحركات الطبیعیّة، وعلّةً غائیّةً لبعض الحركات الإرادیّة، فافهم.

476 ـ قوله «وإذ كان هذا العالم...»

وههنا یشیر إلى مسألة ربط الحادث بالقدیم والمتغیّر بالثابت، التی كانت تُبیَّن على أساس حركات الأفلاك مع ثبات ذواتها، والتی وَجدتْ حلّاً وافیاً على ضوء الحركة الجوهریّة التی أثبتها صدر المتألّهین، حیث تبیّن أنّ وجود الجوهر الجسمانیّ هو عین التغیّر والحركة والسیلان، فإفاضة هذا الوجود یعنی إیجاد الحركة لا إیجاد شیء وجَعْله متحرّكاً جعلاً تركیبیّاً، ولا یلزم أن یكون الموجِد متغیّراً ومتحرّكاً، لأنّ الموجِد هو الفاعل الإلهیّ لا الفاعل الطبیعیّ، وبعبارة اُخرى: تتنزّل مراتب الوجود إلى أضعف مراتبها التی لیس لها وجود جمعیٌّ، وإنّما تحصل شیئاً فشیئاً بحیث ینتزع عنه الزمان والحركة، ولا یقتضی ذلك سریان الزمان والحركة إلى الفاعل. فالنسبة الإیجادیّة لا تقع فی ظرف الزمان، ولا تكون مسبوقة بعدم زمانیّ، بل المنتسب وطرف الإضافة هو عین التجدّد والتغیّر والسیلان، وینتزع مفهوم الحركة والزمان من نحو وجوده.(1)


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌133ـ141.

الفصل الثالث والعشرون

477 ـ قوله «فی حدوث العالم»

قد تحصّل من الأبحاث الماضیة فی المرحلة العاشرة أنّ الحدوث على أربعة أقسام: الحدوث الذاتیّ لكلّ ذی مهیّة، والحدوث الفقریّ لكلّ وجود امكانیّ، والحدوث الدهریّ لكلّ ما ینسب إلى وعاء الدهر، والحدوث الزمانیّ الذی لا یتّصف به إلاّ الزمانیّات. ثمّ إنّه لا ریب فی الحدوث الذاتیّ لجمیع ما سوى الله تعالى، ومثله الحدوث الفقریّ أو الحدوث بالحقّ على القول بأصالة الوجود، وكذا الحدوث الدهریّ على ما قال به السیّد الداماد.

وأمّا الحدوث الزمانیّ فهو معركة الآراء بین الفلاسفة والمتكلّمین: فالمشهور بین المتكلّمین أنّ القِدم بجمیع معانیه خاصّ بالواجب تعالى، وأنّ ما سواه حادث ذاتاً وزماناً. وقد أنكروا وجود المجرّد التامّ المتعالی عن وعاء الزمان والمكان فی المخلوقات، وذهبوا إلى أنّ العالم (= العالم الجسمانیّ) حادث زماناً بمعنى أنّه مسبوق بعدم زمانیّ، وقد مرّ الكلام فیه فی الفصل السادس من المرحلة الرابعة والفصل الثالث من المرحلة الثامنة، وأشار إلیه أیضاً فی خاتمة المرحلة التاسعة، وسیتعرّض له فی آخر هذا الفصل.

وأمّا الفلاسفة فهم قائلون بوجود المجرّدات المتعالیة عن الزمان والمكان، وواضح أنّه لا معنى لاتّصافها بالحدوث الزمانیّ. وأمّا اتّصافها بالقدم الزمانیّ فیصحّ بمعنى سلبیّ أی سلب الحدوث الزمانیّ والزمان عنها لا بمعنى وجود زمان أزلیّ لها. وأمّا عالم الأجسام فالمشهور بینهم أنّ الأفلاك مع نفوسها قدیمة زماناً بمعنى ثبوت زمان أزلیّ لها حاصلٍ بحركتها الأزلیّة، وكذا جرم عالم العناصر بمادّته وصورته الجسمیّة، وإنّما یتّصف بالحدوث الزمانیّ أشخاص الجواهر النوعیّة وأعراضها.

وأمّا صدر المتألّهین فقد أثبت بفضل الحركة الجوهریّة أن لا شیء ثابتاً فی عالم الأجسام، فالأجرام الفلكیّة أیضاً لیس لها وجود ثابت، بل وجودها نفس الحدوث والتّجدد.(1) لكن لا یعنی ذلك انتهاء وجودها من جهة البدء إلى مبدء آنیّ، كما أنّ سلسلة الحوادث كذلك.

ثمّ إنّ السیّد الداماد بذل غایة مجهوده لإثبات الحدوث الدهریّ الانفكاكیّ لجملة ما سوى الله تعالى ثمّ نهض بإثبات تناهی الزمان ومقدار الحركة وعدد الحوادث، وأجرى فیها براهین التسلسل لاجتماعها جمیعاً فی وعاء الدهر.(2) وهذه المسألة تشكّل المحور الرئیسیّ لأبحاثه فی كتاب القبسات، وقد صرّح فی مقدّمته أنّ إثبات حدوث العالم هو الغرض من تدوینه.

وأمّا الاُستاذ(قدس‌سره) فقد حاول إثبات الحدوث الزمانیّ لعالم الأجسام من طریق آخر، وهو أنّ هذا العالم ـ كما مرّ فی الفصل السابق وفی المرحلة التاسعة ـ حركةٌ جوهریّة ممتدّة، ولا ریب أنّ كلّ قطعة منها حادثةٌ حدوثاً زمانیّاً، فالمجموع أیضاً كذلك، لأنّه لیس شیئاً وراء الأجزاء والقطعات. وذلك كما أن مجموع المجرّدات لیس شیئاً وراء أشخاصها، وبثبوت الحدوث الذاتیّ أو الفقریّ أو الدهریّ لكلّ واحد منها یثبت ذلك للمجموع.

ویلاحظ علیه ـ مضافاً إلى ما مرّ من الإشكال فی وحدة الحركة ـ أنّ حدوث كلّ جزء من الحركة لا یكفی دلیلاً على حدوث الكلّ كواحد ممتدّ، لأنّ كل جزء منها إنّما یتّصف بالحدوث الزمانی لسبق عدم زمانیّ علیه ینتزع منجزءآخر منها، لكن لا یجری ذلك فی الكلّ لعدم شیء سابق علیه سبقاً زمانیّاً. ولا یقاس هذا بالحدوث الذاتّی أو الفقریّ أو الدهرىّ، لأنّ ملاك تلك الأنواع من الحدوث موجود فی المجموع.


1. نفس المصدر: ج‌5، ص‌‌194ـ248؛ وج7: ص‌‌282ـ331.

2. راجع: القبسات: ص‌‌226ـ228.

والحاصل أنّ إسراء حكم الأجزاء أو الأفراد إلى المجموع إنّما یصحّ فی ما إذا لم تتصوّر للمجموع خاصّةٌ لا توجد فی الأجزاء والأفراد كما فی حدوث الكلّ حدوثاً ذاتیّاً أو فقریّاً أو دهریّاً، بخلاف الحدوث الزمانیّ فی الحوادث المتسلسلة، لصحّة اتّصاف كلّ واحدة منها بالمسبوقیّة بعدم زمانیّ، بخلاف المجموع. على أنّ اتّصاف الجزء الأوّل أو الحادثة الاُولى بذلك أیضاً ممنوع، فلا یصدق أنّ كلّ واحدة من قطعات الحركة مسبوقة بعدم زمانیّ. إلاّ أن یفسّر الحادث الزمانیّ بما له مبدء آنیٌ. ومع ذلك فتمكن المناقشة فیه أیضاً بمنع وجود المبدء الآنیّ لكلّ ما مضى، فلو فُرضت الحركة الجوهریّة غیر متناهیة زماناً من حیث البدء والختم لم یصحّ الاستدلال على إبطاله بوجود مبدء آنیّ لها من طریق وجود المبدء الآنیّ لكلّ قطعة من قطعاتها. على أنّه بناءاً على وحدة الحركة لا وجود للقطعات بالفعل حتّى یثبت لها حكم ویُسرى إلى الكلّ، فافهم.

فلو جرتْ براهین التسلسل فی الحوادث المتسلسلة ـ كما هو رأی السیّد الداماد ـ ثبت المبدء الآنیّ للعالم الجسمانیّ من حیث البدء والختم، لكن فی جریانها نظر كما نبّهنا علیه تحت الرقم (244) فتبقى المسألة مشكوكاً فیها من وجهة النظر الفلسفیّة، وإن شیءت فَسَمِّها «جدلیّة الطرفین» كما حكی عن المعلّم الأوّل والشیخ الرئیس، وإن كان كلامهما ناظراً إلی جهة اُخرى، كما نبّه علیها فی القبسات.(1) والله العالم.

الفصل الرابع والعشرون

478 ـ قوله «فی دوام الفیض»

إنّ ممّا تُمُسّك به لإثبات قِدم العالم ونفی المبدء الزمانیّ عنه هو إطلاق فاعلیّته


1. نفس المصدر: ص‌‌2 و 25ـ36.

تعالى وسرمدیّة فیضه ودوام جوده. قال صدر المتألّهین حكایة عنهم: «إنّ الواجب الوجود واحد من جمیع الوجوه، غیر متغیّر ولا متبدّل، وإنّه متشابه الأحوال والأفعال، فإن لم یوجد عنه شیء أصلاً بل كانت الأحوال كلّها على ما كانت علیه وجب استمرار العدم كما كان، وإن تجدّد حال من الأحوال المذكورة موجبةٌ لوجود العالم فهو محال، لأنّه لیس فی العدم الصریح حال یكون الأولى فیه أن یكون العالم موجوداً، أو بالبارئ أن یكون موجِداً، أو یكون فیه حال آخرُ تقتضی وجوبه، لتشابه الحال».

ثمّ قال: «وهذه المقدّمات كلّها صادقة حقّة اضطراریّة، لكن مع ذلك لا یلزم منها قِدم العالم، فإنّك قد علمت أنّ المهیّة المتجدّدة الوجود ثباتها عین التجدّد...».(1)

وقال فی موضوع آخر: «فالفیض من عند الله باقٍ دائمٌ، والعالم متبدّل زائل فی كلّ حین، وانّما بقاؤه بتوارد الأمثال، كبقاء الأنفاس فی مدّة حیاة كلّ واحد من الناس، والخلق فی لبس وذهول عن تشابه الأمثال، وبقائها على وجه الاتّصال».(2)

والحاصل أنّه سلّم أنّ مقتضى وجوب الوجود من جمیع الجهات ودوام فیضه سبحانه عدمُ تناهی سلسلة الحوادث من حیث البدء، لكنّ الاُستاذ(قدس‌سره) منعَ إمكان القابل، واستند إلى الحجّة التی أقامها على حدوث العالم زماناً فی الفصل السابق. فكما أنّ أبعاد العالَم المكانیّةَ متناهیّةٌ عندهم، وتناهیها لا ینافی سعة جوده سبحانه، كذلك تناهی بُعده الزمانیّ هو مقتضى البرهان، ولا ینافی دوام فیضه سبحانه.(3) أمّا العوالم التی فوق عالم الطبیعة فلا سبیل لهذه المحدودیّات إلیها، وإنّما محدودیّتها هی من حیث شدّة الوجود، وهی مقتضى إمكانها الذاتیّ وفقرها الوجودیّ، فمهما


1. راجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌299ـ300.

2. نفس المصدر: ص‌‌328.

3. راجع: القبسات: ص‌‌32.

بلغ كمال وجودها من الشرف والكرامة والقوّة والشدّة كانت رابطة محضة لا استقلال لها دون الواجب تعالى، ولا یمكن فرض واسطة بین المرتبة الوجوبیّة الغنیّة ومراتبها الإمكانیّة الفقیرة، فهو تعالى فوق ما لا یتناهى بما لا یتناهى. وأمّا محدودیة عالم الأجسام من حیث الزمان أو من حیث المكان فإنّما هی من قِبل ذاته، لقیام الحجّة على استحالة لا تناهیه، ولیست من إمساك الواجب تعالى عن توسعتها والإفاضة علیها.

لكن قد عرفت قصور البراهین عن إثبات تناهی الأبعاد وتناهی الزمان، فنذر المسألتین فی بقعة الإمكان، حتّى یذودنا عنهما قائم البرهان، والله المستعان.

479 ـ قوله «ولا تكرُّر فی وجود العالم»

حُكی عن بعض فلاسفة یونان وغیرهم القول بأنّ حوادث العالم تتكّرر بعد حقب من القرون، وذلك بحصول وضع للأفلاك مشابه لما كانت علیه فی الدورة السابقة، وهكذا تتكّرر الأدوار. وردّ علیه بأنّه لا دلیل علیه. لكن من المعلوم أنّ عدم الدلیل لا یكفی دلیلاً على العدم.

480 ـ قوله «وما قیل...»

هذا فی الواقع إجابة لمطالبة الدلیل، وحاصله أنّ العلّة الفاعلیّة لوجود الحوادث هو العقل المفارق الدائم، ومقتضى دوام وجوده دوام أنواع معلولاته، وأمّا اشخاصها فهی منوطة بحصول شروط ومعدّات من الأوضاع الفلكیّة المتغیّرة، وبتكرّر تلك الأوضاع تتمّ العلّة لوجود أمثالها.

وحاصل الجواب هو منع انحصار الشروط والمعدّات فی الأوضاع المفروضة، ومنع تكرّر الأوضاع بعینها. مضافاً إلى بطلان فرضیّة الأفلاك، التی اعتبرتْ كأصل موضوع.

* * *

هذا آخر ما قدّر الله تعالى كتابته بأناملی الخاطئة حول كتاب نهایة الحكمة. فإن اهتدیتُ فبما هدانی ربّی، وإن ضللتُ فإنّما هو من قصوری وجهلی.

والحمد لله أوّلاً وآخراً، وصلّى الله على سیّدنا محمّد وآله الطاهرین، لا سیّما الحجّة ابن الحسن العكسریّ،(عجل‌الله‌تعالی‌فرجه‌الشریف)، وجعلنا من أعوانه وأنصاره.

اللّهمّ إنّ هذا هدیّتی إلى سیّدی واُستاذی السیّد محمّد حسین الطباطبائیّ، صلواتك ورحمتك وبركاتك ورضوانك علیه. فتقبّل منّی بأحسن قبول، وزد فیها ما ینبغی لكرمك وجودك، إنّك جواد كریم وذو فضل عظیم.

إلهی منك ما یلیق بكرمك، ومنّی ما یلیق بلؤمی، فعاملْنی بفضلك، وشفّعْ فیّ أولیاءك الذین جعلتَهم ذخراً لعبادك العاصین.

«فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِیِّی فِی الدُّنْیَا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِی مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِی بِالصَّالِحِینَ‌».